وجهة نظر

“أرشيف المغرب” .. مؤسسة “استراتيجية”

خرجت إلى الحياة سنة 2011 بعد ولادة قيسرية، في بيئة سياسية وإدارية واجتماعية، تكاد تختفي عن سمائها شمس الأرشيف، في ظل فراغ قانوني ومؤسساتي أرشيفي، ساد لعقود، تكرس عبر الحكومات المتعاقبة التي أبعدت الشأن الأرشيفي عن دوائر اهتمامها، بشكل أسس لمفهوم أرشيفي ارتبط في الأذهان والتمثلات، بتلك الوثائق الأرشيفية الفاقدة للحياة والمنتهية للصلاحية، والتي لا تصلح إلا للعبث أو السرقة أو الإتلاف، أو الحكم عليها بالإقامة الجبرية في المكاتب المنسية وفي الأقبية المظلمة، تحت رحمة تأثيرات الزمن (رطوبة، برودة ..) رفقة موظفين أو مستخدمين “مغضوب عليهم”، بشكل أسس لمفهوم ثان للأرشيف، كمكان، ارتبط في أذهان وتصورات الكثير من الرؤساء الإداريين، بمفردات الزجر والعقاب والانتقام والإقصاء والتهميش..

ولادة قيسرية منحت الحياة لمؤسسة عمومية (أرشيف المغرب)، صنفت سنة 2012 ضمن قائمة المؤسسات العمومية ذات الطابع “الاستراتيجي”، وهو تصنيف رسمي شكل شهادة اعتراف من الدولة بقيمتها وأدوارها الاستراتيجية في صيانة التراث الوطني وحفظ التاريخ وحماية الهوية وبناء الذاكرة الجماعية، بشكل يجعل منها مؤسسة عاكسة لاستمرارية الدولة ومعبرة عن ديمومة مشتركنا الثقافي والتراثي والهوياتي، وقناة ناقلة لصورتنا المتعددة الأبعاد، للأجيال القادمة، وهي أدوار ذات قيمة رفيعة، لها صلات وثيقة بالنفع العام وبالمصالح الاستراتيجية للدولة والمجتمع على حد سواء، كانت كافية، لموقعتها ضمن المؤسسات العمومية الاستراتيجية، يعين مديرها بظهير ملكي، حتى لا تبقى رهينة التجاذبات السياسوية الضيقة أو سجينة الصراعات الحاملة لخلفيات أو مرجعيات فكرية أو سياسية.

لكن وبالقدر ما نثمن المكانة المرموقة التي منحها المشرع للمؤسسة، بالقدر ما نؤكد أن “المؤسسة” لازالت تفصلها مسافات زمنية عن “البعد الاستراتيجي” الذي منح لها، وأدلتنا على ذلك، أنها انطلقت بدون طاقم إداري وبدون مقر يحتضنها، إلا من مدير (الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ “جامع بيضا”) تحمل في مرحلة مبكرة مسؤولية احتضان “المولود الجديد”، كان عليه، استعجال إيجاد مكان أو مقر يأويه، ليتأتى له الحصول على “مقر مؤقت” (جناح من المقر القديم من المكتبة العامة)، بل وحتى هذا “المقر المؤقت”، لم يتم تأهيله إلا بفضل “منحة” من الاتحاد الأوربي تكلف بتدبيرها “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”، وهو “تأهيل” أتاح الشروط الأدنى للممارسة، أما عدد المستخدمين في هذه المرحلة المبكرة (2011) فلم يتجاوز عتبة “ستة” (06) مستخدمين، وهو حصيص مثير للخجل، تطور بشكل “سلحفاتي” إلى أن وصل إلى (51) مستخدما غضون سنـة 2019، وهو واقع مؤسف، فرض على المؤسسة أن ترتدي “جلبابا ضيقا” لا يتناسب البتة، مع حجم المسؤوليات وطبيعة الصلاحيات الممنوحة.

في هذا الصدد، وبمفهوم المخالفة، نؤكد أن “البعد الاستراتيجي” للمؤسسة، كان يقتضي تمكين المؤسسة الناشئة من “مقر” لائق عاكس لهيبة الدولة، يضاهي الصروح المعمارية الحديثة المتواجدة بالعاصمة الرباط، ويستجيب للمواصفات الدولية ذات الصلة بحفظ الأرشيف وصيانته وتثمينه، كما كان يقتضي إتاحة موارد بشرية كافية محاطة بما يكفي من شروط الدعم والحماية والتحفيز (وسائل لوجستية، أجور محفزة، تعويضات عن المخاطر، التنقل، المهام، التكوين، حماية اجتماعية ..)، بشكل يسمح بتنزيل أحكام ومقتضيات القانون المنظم للأرشيف والمرسوم الصادر لتطبيقه، خاصة فيما يتعلق بالتثبت من مدى الالتزام بالقانون الأرشيفي بالإدارات العمومية، ومعاينة مخالفات أحكامه ومقتضياته عند الاقتضاء، والانخراط في اتفاقيات الشراكة والتعاون مع الهيئات والمؤسسات الوطنية والأجنبية، وتنظيم المعارض والندوات العلمية، وخلق جسور تواصلية وإشعاعية مع المؤسسات التعليمية، بما يضمن الإسهام في إرساء التربية على المواطنة وكسب رهان “أرشيف القرب” ..

تأسيسا على ما سبق، نؤكد أن منح “أرشيف المغرب” صفة “المؤسسة العمومية الاستراتيجية”، يحمل الدولة مسؤولية الارتقاء بالوضع الاعتباري للمؤسسة، فالاستراتيجية، ليست فقط تنزيل قوانين أو مؤسسات، بل هي أيضا، بناية (مقر) تليق بقيمة ومكانة المؤسسة وما تضطلع به من مهام واختصاصات متعددة الزوايا، وحرص مستدام على النهوض بأوضاع مواردها البشرية ماديا ولوجستيا ومهنيا واجتماعيا..، أما الوضع الحالي (المقر، الخصيص)، فيعطي للزائر الانطباع منذ الوهلة الأولى، أن المؤسسة لا يربطها بالاستراتيجية، إلا الخير والإحســان، وهذا يجعلنا أمام نوعين من الاستراتيجية : “استراتيجية القانون” (مكرسة قانونا) و “استراتيجية الواقع” (مكرسة بحكم الواقع)، وهنا نؤكد أن “الاستراتيجية الحقيقية”، هي الاستراتيجية التي يعكس فيها “الواقع” “روح القانون”، ونختم بالتأكيد، على ضرورة التحرك لرفع الحرج عن المؤسسة ليس فقط لأنها “مؤسسة استراتيجية”، ولكن أيضا، لأنها تصون مشتركنا الجماعي وتحمي هويتنا الجماعية، ولا يمكن البتة، ربط الارتقاء بها، بهواجس الربح والخسارة أو حسابات الميزانية، وأي تقصير أو تهميش أو إقصاء في أسلوب التعامل مع واقع المؤسسة، لن يكون إلا ضربا “للاستراتيجية” في الصميم، وتقزيما لمؤسسة تقدم خدمات للوطن، لا يمكن قطعا، ربطها بلغة الحساب وهواجس الأرقام والتوازنات، وإذا كانت “الوثيقة الأرشيفية” قد قاست طيلة عقود خلت، فهي الآن، تستحق الاعتراف والتكريم والاحتضان، وهي مقاصد الجواز إليها، يقتضي المرور عبر بوابة “مقر لائق” من منطلق أن “إمارة الدار.. من باب الدار” ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *