وجهة نظر

بمن طفح الكيل؟

قراءة سريعة في فيلم محسن البصري

بعد مشاهدة فيلم “طفح الكيل” للمخرج محسن البصري الذي بدأ عرضه في القاعات السينمائية مؤخرا، الأرجح أن الباب سيبقى مشرعا على السؤال الذي يشكل عنوان هذا المقال: بمن طفح الكيل؟ بالشرائح المجتمعية المقهورة التي لا تجد مجالا لإشباع حاجاتها الأساسية، والتي تعتبر المستشفيات العمومية بالنسبة إليها أسهل الطرق وأسرعها إلى الموت؟ أم طفح الكيل بالمشاهد الذي يقصد قاعة السينما ويؤدي ثمن التذكرة، على أمل أن يجد منتوجا فيلميا يرقى إلى ذائقته الفنية، فلا يحصد في النهاية غير مرارة الخيبة؟

في ذلك اليوم كنا ستة أشخاص أو سبعة داخل القاعة التي تعرض فيلم ” طفح الكيل” في الوقت الذي تعرف فيه القاعة التي تعرض فيلم “30 مليون” لربيع سجيد امتلاء كاملا. وفي الواقع يبدو هذا الميل مبررا إلى حد ما، فحين تنتفي الرؤية الإخراجية العميقة الناهضة على سيناريو محبوك بشكل جيد، يجنح المشاهد إلى السهل الممتنع، والمضحك المريح بحثا عن لحظة فرح مفتقدة.

فيلم “طفح الكيل” أراد له مخرجه أن يكون فيلم قضية، فيلما للشجب والإدانة، بتعرية الوضع المظلم/المؤلم للمؤسسات الصحية في البلد، العمومية منها على وجه الخصوص. لولا أن النوايا وحدها لا تكفي، وأنها –دون رؤية فنية تؤطر الأحداث، وتطريز متوازن للمكونات الفيلمية- لن تسعف في تقديم عمل جاذب. ولا عجب إذن في أن يعرض الفيلم في قاعة شبه فارغة، وأن يخرج النفر القليل الذي شاهده بسؤال عريض حائر: ما الذي حدث؟

وما حدث أن العديد من مشاهد الفيلم بدت مفتعلة، خارجة عن سياق مجتمعي ينحو إلى الحداثة في بعض معالمه، أو لا تربوية وغير حضارية وممجوجة، كمشهد الطريق السيار بعد الحادثة حيث تجمهر الناس في فوضى وكأنهم في سوق أسبوعية، وسرحت أو سرقت غنيمات هزيلات في غياب أي سلوك حضاري، وغياب كلي لأوجه السلطة القمين بها أن تعمل على تدبير الوضع وإرساء النظام. أو مشهد متابعة مقابلة البارصا في فوضى وجلبة ضدا على أخلاقيات السلوك داخل مؤسسة صحية، وكذا مشاهد التدخين المتكررة ضدا على التوجه العام الذي صار أكثر تكتما بخصوص مشاهد التدخين..

لعل الفكرة الأساس في الفيلم هي فكرة الاتجار: الاتجار بالأولاد فلذات الكبد، والاتجار بالضمير والمبادئ والقيم، في مجتمع يؤمن أكثر بثقافة الاستهلاك.. استهلاك السلع واستهلاك الفرجة، وبقيم الربح والإثراء بكل الوسائل، بما ينتج وضعا مأساويا لا يقيم اعتبارا لإنسانية الإنسان، لكن الأدوات الموظفة في نسج الأحداث لم تنجح في صياغة حبكة فيلمية مقنعة وجاذبة، فبدت الشخصيات تائهة، بدون ملامح ودون عمق سيكولوجي، ربما باستثناء شخصية الأم التي أدت دورها باقتدار الممثلة فاطمة الزهراء بناصر، والتي بدت حية، متفاعلة متنامية. حتى الطبيب )يونس بواب( الذي قيل إنه عاد من كندا بنوايا نبيلة وإرادة للتخليق ومناهضة أشكل الغش والفساد، لم يرسل سوى خراطيش بيضاء في وجه الطبيب الجراح والممرض الرئيسي، لم تصب أي هدف بطبيعة الحال، واكتفى بمطاردة دخان سجائره.

تقنيا يمكن القول إن الفيلم حقق الحد الأدنى أو أقل. فمنذ البداية سيسمع المشاهد عن محاولة الانتحار دون أن يراها، رغم أن الوسائل التقنية الحديثة تسعف في تصوير الواقعة بفنية وواقعية عاليتين. كما أن الكاميرا اعتمدت أحيانا على اللقطات المكبرة، حيث يتم التركيز المطول على دقائق الوجه بشكل لا يحتمل. هذه التقنية وظفها “تود فيليبس” مثلا في فيلم “الجوكر” بشكل فني ناجح ومؤثر، حين يركز على وجه الممثل “جواكيم فينيكس” يلمح المشاهد ما يعتمل داخل الشخصية من انفعالات، في حين يحافظ الوجه لدى محسن البصري على نوع من الجمود والستاتيكية المملين.

على سبيل الختم، أود أن أشير إلى أن هذا المقال المكتوب بعجالة لا يتغيا بأي وجه جلد أحد، بقدر ما هو رأي متواضع، شخصي وخاص، في فيلم مغربي حرصت على مشاهدته، مما عمق لدي الفكرة التي ظللت أومن بها منذ مدة والتي مفادها ألا تطور للفيلم المغربي بمنأى عن صناع التخييل من كتاب القصة والرواية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *