وجهة نظر

الرشوة بين اللعنة الشرعية والجريمة القانونية

في ظل الازدهار والنمو الاقتصادي يسعى المشرع إلى المناداة بتطوير هياكل الإدارة لجعلها تقوم بالدور المنوط بها في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، في إطار العلاقة التي تجمعها بهم، وهو ما أًبرز على أرض الواقع شيوع بعض المفاهيم الجديدة المرتبطة بالإدارة من قبيل ” الإدارة فقي خدمة المواطن” و شعار” تقريب الإدارة للمواطن”، هذه الكلمات المتناسقة على شكل جمل تحمل في طياتها معاني واسعة، تتمثل في حق المواطن من قضاء أغراضه اليومية بكل سهولة و بساطة دون النظر إلى مستواه الاجتماعي ووضعيته الاقتصادية، وكذا بمسؤولية ممثلي المصالح بالإدارات في تقديم المساعدة اللازمة لتسهيل المهمة التي جاء من أجلها طالب الحق.

فكما أن لا حق دون المطالب به أصلا، فلا إدارة بدون مواطن يسعى لاكتساب حقوقه و قضاء حاجياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية…و بالتالي كيف تنظر الإدارة للمواطن أ كصاحب حق كرسته القوانين التنظيمية أم سبب من أسباب الربح المادي ( زبون )؟ كيف عالج المشرع مشكل الرشوة؟ وما نظرة الناس لنهي الشريعة؟.

تطورت الإدارة بتطور الواقع الاقتصادي والحضاري للمجتمع، مما أدى إلى تغير الصورة النمطية التي تميزت وتعاملت بها المؤسسات في زمن مضى. إذ اعتمدت المؤسسات الحالية على الآليات الإلكترونية و نوعت من الوسائل المكتبية ( اللوجستيك )، واستبدلت اللغة التواصلية المسطرية بعد أن أصبح أغلب المتعاملين معها يجيدون كيفية محاربة استغلال النفوذ التي لم يعد أحد يستطيع الصبر عليها.

لا خلاف بأن لا إدارة بدون مواطن، و إن الموظف الإداري يصبح مواطن عند تجاوزه لعتبة إدارته.

– تحصين الإدارة العمومية.

مما جرت عليه أفهام و عادات بعض الناس أن قضاء أغراضهم الإدارية تتوقف على إكرام الموظف الذي قدم المساعدة – في إطار واجبه المهني -، ومما قننته القوانين أن الموظف أجرا يتناسب و العمل الذي يقوم به، ويتوافق مع ما حصّله من شواهد علمية، أو أقدمية في الميدان.

إذن فالمواطن غير ملزم إلا بأداء ما أوجبه القانون من رسوم التنبر والأتاوى المحددة قيمتها بموجب القوانين المنظمة لها.

في الآونة الأخيرة حفاظا على بياض وجه الإدارة العمومية، وحرصا على مصالح المواطن و صالحه عند التعامل مع هذا الجهاز،عملت المصالح المعنية على وضع رقم هاتفي يبلغ من خلاله المتضرر وقوع جريمة الرشوة في حقه أو في حق شخص أخر، كما حاولت أن تنهى كلا الطرفين بمنع التعامل بالرشوة بتعليقها لشعار عام على أبواب الإدارات العمومية يحمل عبارة ” لا للرشوة “، ناهيك عن إشهار هذا المفهوم و بثه على شاشات التلفاز لنشر الوعي داخل بيوت المجتمع. لكن ما مدى استيعاب المخاطب للفكرة؟. وهل يعفى من العقاب في حال خالف؟.

– حسم القانون الجنائي في أمر الرشوة.

اهتم المشرع المغربي في الفصول 248 إلى 256 بتأطير النصوص القانونية المحددة لعقوبة الجنحة الأصلية( الفصل 17 من القانون الجنائي جاء فيه : العقوبة الحبسية الأصلية هي: 1- الحبس. 2- الغرامة التي تتجاوز 1200 درهم..)المتمثلة في الرشوة واستغلال النفوذ.إذ راوح في عقوبة الرشوة بالحبس ما بين سنة إلى خمس سنوات، أو بالسجن في حالة ما إذا تم تجاوز مبلغ الرشوة لقيمة مائة ألف درهم، و إلى حدود خمس سنوات إذا لم تفق قيمة الرشوة المأخوذة المبلغ المشار إليه. حيث جاء في الفصل 248 من القانون الجنائي والذي عدل وتمم بموجب القانون رقم 79.03 في فقرته الأخيرة ما يلي ” إذا كان مبلغ الرشوة يفوق مائة ألف درهم تكون العقوبة السجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات و الغرامة من خمسة ألاف إلى مائة ألف درهم…”.

هذا من جهة الغرامة والعقوبة السجنية المقررة في حق متلقي الرشوة، والذي حدد الفصل 248 السالف الذكر ببان صفته في كونه قاضيا أو موظفا عموميا أو متوليا مركزا نيابيا، وذلك إما لكونه قد امتنع عن القيام بعمل أو قام به و آخذ عن ذلك فائدة لم تشترطها خصوصية العمل أو نظام الوظيفة التي يشغلها. أي أن القانون الذي ينظم عمله لم يشترط أخذ مقابل عن عمل يقدمه القائم به، كما أضاف نفس الفصل صفة أخرى لمن يشمله هذا الأمر في أي طبيب أو جراح أو طبيب أسنان أو مولدة قاموا بتقديم شهادة زور في حالة مرضية أو إثبات حال مرضي لا أساس له من الصحة.

وبالرجوع إلى الفقرة الأولى من الفصل 248 من القانون الجنائي والذي عمل المشرع فيه على وصف شكل و صفة قابضها بقوله:” يعد مرتكبا لجريمة الرشوة و يعاقب بالحبس .. من طلب أو قبل عرضا أو وعدا أو طلب أو تسلم هبة أو هدية أو أية فائدة أخرى…” وربطها بالقيام بعمل من أعمال الوظيفة التي يزاولها المرتشي ولم يشترط لها القانون أتعابا.

– مصير الأشياء المرشّى بها.

لم يترك القانون هذا السؤال دون جواب بل إنه بين مآل ما قدمه الراشي إلى المرتشي، فقد جاء في الفصل 255 ما يلي:” لا يجوز مطلقا أن ترد إلى الراشي الأشياء التي قدمها ولا قيمتها، بل يجب أن يحكم بمصادرتها و تمليكها لخزينة الدولة” بل يتجاوز الأمر ما في يد المرتشي من أغراض الرشوة إلى استردادها من يد أي شخص استفاد منها، سحب الفقرة الأخيرة من نفس الفصل.
وبالتالي فبثبوت الفعل الضار المتمثل في الرشوة يجعل الخزينة العامة صاحبة الحق في تملك عين الرشوة أو قيمتها في حال التصرف فيها.

– إفلات الراشي من العقاب.

جاء الفصل 255 ليعطي للراشي استثناءً إمكانية إعفائه من العقوبة التي يقررها القانون في حقه، ولكنه قيد هذا الاستثناء بشروط كأن يبين العذر المقبول الذي يبين عدم رضائه بدفع الرشوة وكونه مضطرا لدفعها ( حسب مقتضيات الفصل 1-256 من القانون الجنائي). وكأن المشرع هنا أخذ بالقاعدة الشرعية ” الضرورات تبيح المحظورات ” ليدرأ الشبهات ما أمكن، كما أضاف الفصل عذر أخر يعفي الراشي من العقوبة و المتمثل في كون الموظف من طلب تقديم الرشوة لقضاء الغرض، وهو عذر حقيقة قد يصعب إثباته، لأن ” أهل مكة أدرى بشعابها” فالمرتشي لن يرض لنفسه المذلة أمام زملائه.. و بالتالي فمن يتقدم على آخذ و طلب الرشوة يعرف جيدا طرق الحيطة والحذر لإبعاد الشبهة عنه. كما يعرف المواقع الصالحة لإبرام الصفقات تحت ظل شعاع الشمس بعيدا عن الأنظار البشرية والالكترونية…

ومما أتاحه المشرع للراشي أيضا ليبعد عنه وقع العقوبة التي قررها القانون ضده في حال ثبوت مشاركته في تقديم الرشوة لفائدة موظف، أن يكون السباق إلى إخبار السلطات القضائية عن جريمة الرشوة التي يعتبر طرفا فيها، ولكن وجب عليه التبليغ عن الأمر قبل تنفيذه لطلب المرتشي، أو أن يقوم بما تم ذكره بعد تقديمه للرشوة حسب مفهوم الفصل 1-256 من قانون79.03.

و لكن من جهة أخرى فقد توقع العقوبة على الراشي في حال ما إذا قام برشوة أحد رجال القضاء أو القضاة الأحكام أو أحد الأعضاء المحلفين، وأدت هذه الرشوة إلى تغيير مجرى الحكم فصدر بسببها حكم ذو عقوبة جنائية. كما إذا كانت الرشوة مقدمة لأجل القيام بعمل يعتبره القانون جناية فمتحمل العقوبة هو الراشي.( الفصلين 252-253 من القانون الجنائي).

بالإضافة إلى هذا فقد وضع المشرع عقوبات إضافية تصل إلى حد الحرمان من بعض الحقوق الشخصية كالحرمان من ممارسة بعض الحقوق الوطنية و التجريد منها، وهي التي حصرها الفصل 26 من نفس القانون و من بينها طرد المحكوم عليه من جميع الوظائف العمومية وكل الخدمات و الأعمال العمومية، والإقصاء من التحلي بأي وسام…

– الرشوة في الشريعة .

عندما تغافل المجتمع عن وازع الدين اقتضت مصلحة المجتمع سد أبواب الفساد بالنصوص القانونية ذات الوازع الزجري، وكان كافيا من ردع شهوات تملك المال و الطمع في الاستزادة منه الحديث المشهور الذي ألبس الراشي والمرتشي وكذا الوسيط بينهما في حالة وجوده باللعنة المخرجة من رحمة الله التي يسعى من في الأرض الدخول تحت رايتها، و لكن استصغار الناس لهذا المفهوم و تناسي حقيقته جعلت هذه الآفة تتوسع وتنتشر داخل المجتمع وخاصة داخل أجهزته الإدارية.

وقد نسي أنس أيضا دلالة المنطوق والمفهوم من الآية القرآنية التي نهت عن أكل أموال الناس بالباطل :{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وهو نهي يقتضي التحريم، ولكن كيف يسمع الصم الدعاء إذا ما دعوا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *