وجهة نظر

ما بعد كورونا.. المغرب الممكن

تشكل الصدمات في تاريخ الدول أو في تاريخ الأفراد إحدى اللحظات الهامة والفارقة، بحيث قد تشكل فرصة “تاريخية” لإعادة شحن الهمم أو لحظة تقوقع كبرى تفاقم العجز الخاص و/أو العام.

مَكْمَن الاختلاف بين التعاطي “الإيجابي” أو التعاطي “السلبي” مع الصدمات يكمن أساسا في عزيمة الفرد أو الجماعة وخاصة طريقة تَمثّل تلك اللحظة الموسومة بالصدمة.

هذا وتشكل “جائحة كورونا” بالنسبة لنا كمغاربة إحدى تلك اللحظات المهمة والفاصلة القادرة على إعادة طرح أسئلة الذات في علاقتها مع المستقبل الممكن والمنشود.

I – التعاطي السلبي مع وباء كورونا

في رصدنا المتواضع لطريقة تعاطي المغاربة مع جائحة كورونا وقفنا على تعاطيين كبيرين، الأول تعاطي إيجابي والثاني تعاطي سلبي مع هذه الجائحة.

نحمل كمغاربة في جيناتنا التاريخية حمولة سلبية تعود لمئات السنين لكيفية تعاملنا مع الأوبئة والأمراض والجوائح التي كانت تضرب البلد طيلة تاريخه الطويل. بل إن كلمة “جائحة” في حد ذاته أوقد تخوفات كثيرة نظرا لتلك الحمولة الضاربة في التاريخ.

لقد كان أجدادنا وآباؤنا في لحظات ضعفهم أمام هول الأوبئة والجوائح يقفون عاجزين لا يملكون إلا الدعاء. ولقد رأينا نفس هذا الموقف السلبي الضعيف أمام هذا العدو الخفي قد خرج بسرعة للعلن وتم اعتبار هذه الجائحة بلاء وابتلاء من الله عز وجل ولا يمكن أن يرفعها إلا هو سبحانه.

هكذا خرجت مظاهرات ليلية في مدن طنجة وتطوان وفاس تدعو الله أن يرفع هذا الامتحان الصعب في تحد لقواعد السلامة ونمط التباعد الاجتماعي ومنع التجمعات والتظاهرات من أجل عدم انتشار الوباء.
لن أناقش المسألة من الجانب الإيماني فكل فرد حر في اعتقاده، لكن أريد هنا أن أقف على وجه الاختلاف بين نظرة أجدادنا ونظرتنا للوباء.
يذكر المفكر المغربي بنسالم حميش كيف أن الفقهاء المغاربة وهم يواجهون دوريا وباء الطاعون الذي استقر بالمغرب منذ القرن 16 ولم نخرج منه إلا أوائل القرن العشرين، قد حرموا اللجوء للتداوي والطبابة وكانوا يعتبرون أن الطاعون إن كان بلاء من الله فإن محاربته بالدواء تعد رفضا لحكمة الله، وكانوا يكتفون فقط بالدعاء.

أما الذين خرجوا في تلك المسيرات فإنهم، وإن كانوا يتشاركون مع أجدادهم في اعتبار الأوبئة وغيرها امتحانا إلاهيا، فإنهم لا يحرمون أبدا الدواء والطب وهذا مؤشر مهم في تاريخ العقليات على تطور كبير وعلى بوادر “نهضة” لا تزال غير محسومة لدى هؤلاء، ويجب علينا بالتالي العمل معهم وليس ضدهم من أجل الانخراط في الزمن الحالي.

II – التعاطي الإيجابي مع وباء كورونا

في هذه الفقرة أود أن أتحدث على ” تعاطيين” إيجابيين مع هذه الجائحة:

تعاطي الدولة

تعاطي الأفراد

1- التعاطي الإيجابي للدولة مع جائحة كورونا

بالنسبة للدولة، من الأعلى للأسفل، من الملك إلى أفراد الشرطة وأعوان السلطة، كان هناك إحساس جامع على وحدة المصير ولم تقف الدولة هذا الموقف المسؤول والإيجابي على مستوى الخطاب بل تم تمريره عبر عدة قرارات استحسنها الشعب المغربي. فالملك قرر إنشاء والمساهمة من ماله الخاص في صندوق خاص بالتصدي لهذا “العدو”. أفراد الشرطة تبرعوا بالدم لمراكز تحاقن الدم التي اشتكت خصاصا. أعوان السلطة وخاصة العنصر النسوي منه، نزلوا للشوارع وحثوا المواطنين بلغة واضحة وهم يرددون عبر الميكرفونات “احنا معاكم” ” احنا منكم” ويطلبون – بشكل مؤثر- من المواطنين الحفاظ على صحتهم وصحة أبنائهم.

هكذا إذن وعلى حين غرة، اكتشفت الدولة أنها جزء لا يتجزأ من المواطن وأن دورها ووجودها لن يكتمل إلا بوجود هذا المواطن المعافى.

طبعا يجب أن نشير هنا إلى أن العلاقة التي جمعت الدولة مع المواطن، من جهة الدولة، كانت علاقة تعالي ونظرة دونية للمواطن.

إذن نحن نلاحظ، مع هذه الحرب، تغيرا كبيرا لتمثل السلطة لنفسها ولشعبها في إطار وحدة المصير.

2- التعاطي الإيجابي للمواطنين مع جائحة كورونا

في مقابل هذه المسافة التي قطعتها الدولة في اتجاه المواطن، سارع المواطن لاحتضان الدولة، فإن هي أسرعت بالتقرب للمواطن فإن المواطن قد جرى بأقصى سرعة لاحتضان الدولة.

إن المواطن الذي كان ينظر للدولة باعتبارها جهازا “متعاليا” و”مفارقا” بل و”غريبا” عنه، بدَّل بسرعة فائقة نظرته وصار يتمثل الدولة باعتبارها حاملة لهمومه. فرأينا النشيد الوطني يغنى من شرفات المنازل كما تحفل مواقع التواصل الاجتماعي بالفيديوهات التي توثق لعلاقة جديدة قوامها الاحترام والحب المتبادل.

الأكيد أن هذه الصورة يتم خدشها بين الحين والآخر سواء من طرف السلطة حيث رأينا تجاوزات لبعض رجالات السلطة الذين يعنفون المواطنين، كما رأينا مواطنين يتحدون قرارات السلطة بكل الوسائل الممكنة، لكن هذا لا يمنع من ضرورة التأكيد على العلاقة الجديدة التي يتم إرساؤها بين الدولة والمواطن. علاقة قوامها الثقة من جانب المواطن في صوابية قرارات الدولة وثقة الدولة في مواطنيها ودرجة وعيهم العالية من أجل تجاوز هذه المحنة.

ويجب أن أشير هنا أيضا إلى بعض الكتابات الشاذة التي تدعو الدولة لاستعمال العنف المفرط بل استعمال الرصاص الحي من أجل فرض الحظر الصحي، ويُستشف من هذا التحريض المجاني أن هؤلاء المثقفين لايزالون أسرى التمثلات السابقة أي التمثلات “المتعالية” و” الفوقية” للشعب ” الأمي والبليد…

وعلى العموم، لقد أعطتنا هذه الجائحة اليوم فرصة تاريخية للمصالحة بين المواطن والدولة من خلال قطع الطريق، الواحد في اتجاه الآخر، من أجل الالتقاء في نقطة معينة قد تكون بداية عهد جديد.

III – بداية جديدة

يقول المؤرخ المغربي المصفى بوعزيز في كتابه الأخير الموسوم: “الوطنيون المغاربة في القرن العشرين” بأن “الإصلاحية المغربية (يقصد حركات الإصلاح الوطنية) برزت بعد عقد من الذهول أمام “جبروت” المستعمر كمجهود مزدوج وواع من طرف أنتلجنسيات معينة، اتجاه الذات لمساءلتها واعتصار عناصر المقاومة والصمود…واتجاه الآخر، المسيطر والمهيمن” جزء 2 ص 255.

ويُفصِّل بوعزيز أكثر ويقول بأن بوادر الفكر الوطني، وهنا يلتقي مع عبد الله العروي في أطروحته حول الجذور السياسية والاجتماعية للحركة الوطنية، كانت من خلال الاحتكاك بالدولة المستعمِرة أي فرنسا انطلاقا من هزيمة إيسلي سنة 1845.

ما يهمني في هذا المقام هو أن الحركة الوطنية السياسية والثقافية… حاولت الخروج من الأزمة الخانقة التي كانت تمر منها الدولة المغربية من خلال النقاش المحتدم مع “فرنسا” أي مع “الغرب”. ومن هنا جاءت تمثلاتنا للحداثة باعتبارها منجز تام وقائم هناك بالغرب وليس علينا إلا:

• أن نقلد الغرب في طريق الوصول للمحطة المعلومة سلفا (تاريخانية)
• أو البحث عن طريق خاص للوصول لنفس النهاية ( تاريخانية مموهة)

الأكيد أن الجابري حاول أن يقول بأن الطريق غير معلومة والمحطة غير معروفة وعلينا أن نجد كلا من الطريق والمحطة، لكن دائما كان يستحضر أوروبا والغرب كمجال لنوع من المنافسة.

ما تمثله اليوم “جائحة كورونا” هو أساسا ما مثلثه هزيمة فرنسا – بالنسبة للمغاربة في أربعينيات القرن الماضي- في الحرب العالمية الثانية وبالتالي جرأة الوطنيين المغاربة للمطالبة بالاستقلال السياسي (نهاية الحرب سنة 1941 تاريخ المطالبة بالاستقلال سنة 1944).

إن التشابه بين الحدثين يكاد يتطابق. فهزيمة فرنسا أمام ألمانيا توازيها اليوم هزيمة أوروبا جمعاء أمام هذا العدو اللامرئي (هنا لا أتكلم بتاتا انطلاقا من أي شماتة وبدون أي نزعة انتقامية غير واردة أساسا) وبالتالي علينا اليوم أن نعدد، على مستوى الثقافة والتمثل، من أوجه ونجاحات “الحداثات” الأخرى وخاصة الصينية.

ما تمثله اليوم “جائحة كورونا” هو أساسا هذه الفرصة التاريخية من أجل النظر للخارطة الدولية جمعاء ومعرفة واستدخال أن هناك “حداثاتات” متعددة وليس فقط الحداثة الغربية.

ما عانينا منه نحن في المغرب وفي الوطن العربي عموما هو انكفاؤنا على العلاقة بيننا وبين هذا “الغرب” المتمثل في أوروبا وأمريكا.

إن انهيار دول استعمارية كبرى (وأؤكد هنا على تضامني الإنساني معهم) مثل إيطاليا، إسبانيا، فرنسا، بريطانيا وأمريكا وغيرها في مقابل الصمود البطولي للصين وبأقل التكاليف البشرية الممكنة، يعطينا فرصة ذهبية للالتفات لهذه ” الصين العظيمة”.

ليس هينا، على مستوى الذهنيات أن نحول نظرتنا، المنحصرة أساسا في اتجاه أوروبا وأمريكا، نحو اتجاهات أخرى. كان المرحوم عبد الكبير الخطيبي يقول بأن المغربي ينظر للفرنسي والفرنسي ينظر للأمريكي والأمريكي ينظر لنفسه فقط. هذه النظرة تغيرت اليوم وما حديث الرئيس الأمريكي المتأخر وبعد عجرفة طويلة، بضرورة الاهتمام بتجربة الصين، إلا تغيرا كبيرا في عقلية الكوبوي الأمريكي.

إن حديثي عن الصين وعن المغرب، إنما هو للقول بأن تاريخ “الامبراطوريتين” متشابه إلى حد ما. ف”الامبراطورية الشريفة” أو “المملكة الشريفة” ظلت تعيش في وهم القوة طيلة قرون عديدة إلى أن انهارت دفعة واحدة بين إيسلي وتطوان بين 1845 و1860 وبعد ذلك قدمت نفسها لقمة سائغة في عقد الحماية للمستعمر الفرنسي سنة 1912.

الصين عاشت نفس الظروف: وَهْمُ قوة ثم انهيار إثر حروب الأفيون ثم تجربة الدولة المتخلفة لسنوات طويلة.

غير أن الصين وكما يقول أحد مفكريها، تجاوزت النظرة الواحدة التي لا نزال نحن أسرى لها ولا نزال نفكر ضمنها، واكتشفت أن هناك عوالم أخرى غير أوروبا وأمريكا، باعتبارهم المثال والقدوة، وأنه ليس لنا إما التماهي الكلي معهما أي مع الغرب أو الرفض الكلي لهذا الغرب.

ما تقدمه لنا اليوم “جائحة كورونا” ونحن سنجتاز هذه المرحلة وأتمنى أن نتجاوزها بأقل تكلفة بشرية واقتصادية ممكنة، أن نتجاوزها وقد مررنا، على مستوى الفكر، بمرحلة الاكتشافات الجغرافية الكبرى، واستدخلنا أن هناك طرقا متعددة للوصول لهذه الحداثة وأن الحداثة ليست مكانا معلوما منذ البداية وأن الطريق أو المتاهة التي سنسلكها ستوصلنا إلى ذلك المكان المعروف سلفا. علينا إذن أن ننطلق فالطريق غير معروف والمحطة النهائية مجهولة أيضا، وسنصل لشيء ما حتما.

خاتمة

لقد وضعَنا “الغرب” باستمرار في وضعية “اختبار دائم” وكلما حاولنا المرور إلى وضعية أحسن، كان هذا الغرب يذكرنا بدونيتنا تجاهه، دونيتنا الخاصة بكل دولة على حدى أو دونيتنا الجمعية. وضمن هذا المنطق الاستعماري، شن “الغرب” حروبا لا تنتهي في المنطقة من العدوان الثلاثي 1956، احتلال العراق 2003 ثم الحرب على سوريا …

وعندما نحاول اليوم تجاوز هذا “الغرب” والالتفات لتجارب دولية أخرى، تنطلق الدعاية الغربية لتصف وبكل النعوت القدحية تجارب تلك الدول، كما تفعل الآن مع كل من الصين وروسيا وغيرهما.

لكن أرجو الا تنطلي علينا، هذه المرة، الحيلة ونكون في مستوى اهتبال اللحظة من أجل غد مشرق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • أحمد شكير
    منذ 4 سنوات

    في الصميم. مقال ممتاز و عميق جدا. شكرا للأستاذ إبراهيم الحريري