منتدى العمق

هل سيغير الفيروس التاجي العالم؟

كثر الحديث في الأيام السالفة عن ما يمكن أن يحدثه فيروس كوفيد 19 من تغييرات على مستوى العالم. غير أنه من المبالغ فيه لدى البعض المفكرين والكتاب، بل من المضحك تارة، هو أن الواقعة قد تقلب الانظمة العالمية قلبا كاملا، كأن يقع في آخر الجائحة أن يخرج الناس إلى الشوارع يطالبون بإسقاط الأنظمة بدل تبادل التهاني جراء التغلب على كابوس مرعب، نود أن نقول أن الأمر الذي يخاله البعض ممكنا يكاد يستحيل، لسبب بسيط: وهو أن تجاوز هذه الحرب البيولوجية سيتم بواسطة النظام الليبرالي الرأسمالي السائد وداخله، إنها حركة داخل بطن الوحش، أعراضها الجانبية ليست جديرة بالقضاء عليه – بل سيكون الفايروس نقطة تزيد اقتصاد السوق الدولية قوة بعد اكتشاف اللقاح، والذي قدر أمد ظهوره في سنة على الأقل- إننا أمام نظام عالمي قوي ومتجدر بشكل أعمق في أغلب البقاع.

تلكم إذن فكرة، وإن كانت غير موسعة على نحو كاف، تمكننا من عدم اتباع خطابات التهويل، التي من شأنها زرع أفكار خاطئة تكرس الكسل والخوف وانتظار التغيير من فيروس أربك العالم، وإن كان هذا الفيروس أقل ضرر بكثير من الأضرار التي خلفتها الحربين العالميتين من دمار ومجاري للدماء.

دعونا الان نسجل عاملين تاريخيين ضروريين لجعل نظام سياسي _اقتصادي معين ينقلب إلى نقيض أو غيره.

أولا الصراع، وهو حالة اجتماعية غير منظمة، تقوم على احتكاك طبقتين او اكثر من المجتمع، تكون الغاية منه الإطاحة بنظام ما قائم، والسعي بخطى هادفة إلى نظام بديل يكفل للكل الحرية والقيم المنشودة، غير أن هذا الصراع بدوره يقضي حدوثة شروطا اجتماعية أخرى كثيرة لسنا معنيين بها هنا.

هل هذا الشرط متحقق في ظل ما يعرفه العالم الآن؟ من جهة نظرية نعم، إلا أنه صراع ضد البقاء، سينتهي إلى موت طرف بشكل من الأشكال ( فإما أن تسير في منحى نهاية الإنسان، أو أن يضع هذا الأخير حدا للمعضلة) لكنه ليس ثورة، وليست تحمل على الأقل أدنى سماتها، وهذا ما ينبغي على الكثيرين استيعابه، لكن هل هناك أدنى فكرة حول ما يمكن أن يؤدي له؟ في اعتقادي : إن الشعوب اليوم تقف على قدم المساواة، كلها خائفة، وحين سيأتي الفرج سيرتمي الكل في الشوارع يردد شعارات النصر ثم تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي، إن لم نقل أن هذا الأمر مطلوب إلى حدود الآن، ففي النهاية : التخلص من الفيروس لن يفضي سوى إلى تعاظم الأنظمة السائدة حين ستلقى الشكر والتقدير من رعيتها.

إن شرط الصراع هو بمثابة قانون، فهو الطريق الملكي للبقاء والثورة، فالصراع الأول يحصل إذا تعلق الأمر بالنمط البيولوجي، يتمايل بين كفتي الفناء والاستمرار، أما الثاني فهو اجتماعي قائم على النصر والاخفاق. وإن كانت الماركسية قد استلهمت الثاني من الأول، إلا أنهما يختلفان من جهة النوع والجنس.

أما الشرط الثاني. وهو الثورة الفكرية :وهذا أمر نادر الحصول، فهو حلقة انتقال واسعة، أي أنه لا يطال الحياة السياسية والاجتماعية فقط، وإنما ينعكس مرآويا على كل أشكال الحياة، فهي ثورة تحصل أسفل قشرة الرأس، تسهم بشكل تدريجي في تغيير السلوك الفردي ثم الجماعي بشكل عام، فهي ثورة باردة إن صح القول، تعبر عن انتقال تاريخي من عصر إلى عصر جديد، يسبقه التنظير ومنه إلى التطبيق والتنزيل على نحو شاسع، وقد نجد النقلة التاريخية التي عرفتها ألمانيا من عصر التقليد إلى عصر الحداثة خير مثال على هذا. وبشكل عام الثورة الفكرية هي اسلوب متقدم للتعبير عن الرفض لما هو قائم وطلب التغيير بواسطة المبادئ، حيث تبدأ بالنقد وتنتهي بالتوجيه وفق ما تمليه قضايا العقل.

وإننا لا نجد لهذه الجائحة مكانة بين هذه الشروط، إلا أن حظها من التغيير وارد جدا وحاصل على متسووين، إجتماعي واقتصادي: فعلى المستوى الأول إنه يعزز حس التضامن الشعبي، والإحساس بالمسؤولية، واحترام الغير، فالوضع يساعد المجتمع على التآلف واسترجاع الوعي بقيمة الآخر كإنسان، ناهيك على حس المساندة الذي يظهر في مساعدة المحتاجين ودعم الأسر الهشة، الشيء الذي يرفع منسوب الثقة والقيم الجمالية.

أما على المستوى الاقتصادي، فقد قدم الفيروس درسا مهما للقطاعات الاقتصادية الكبرى والصغرى، فمن جهة كانت بمثابة رسالة إلى هذا النوع من القطاعات الحساسة، بأن تكون مستعدة دائما لأي شيء يحد من نشاطها الدائم، إذ ينبغي عليها اتباع سياسة التقشف بدل الانغماس التام في الاستهلاك والإنتاج دون أي ضمانات. ومن جهة أخرى قدم الفايروس للدولة نفس الشيء، فليس من حسن التسيير أن تتساوى الواردات والصادرات والمداخيل والمصاريف عند نهاية قانون المالية السنوي، (التعادل)، بل من الضروري توفر صندوق خاص، يكون بمثابة صندوق طوارئ تحسبا لما يمكن أن يجلبه القدر، ثم رسالة ثانية وهي عدم التعويل بنسبة كبيرة على المداخيل الآتية من الجبايات، أي الضرائب على الشركات والواردات، في حين ينبغي التركيز على استغلال الثروات المحلية استغلالا عقلانيا واتباع سياسات اقتصادية بعيدة عن اقتصاد السوق أي دون التركيز على نشاط الشركات والمقاولات، بل بنشاط ذاتي محلي قائم على الإنتاج أكثر من الاستهلاك.

وهناك العديد من الملاحظات لو شئنا الاستمرار في سردها لصرنا أمام نقد واسع لن نجني منه سوى ضياع الوقت والجهد.

إن فيروسنا هذا، من جهة أنه كذلك، عاجز عن إعادة صياغة الوضع العالمي، بل هناك وعد تاريخي هو الكفيل بذلك وهو الحرب النووية المنتظرة، إنه الانفجار الأعظم للمجال العسكري وهو عامل آخر يمكننا فقط الإشارة إليه دون التفكير فيه، لأنه يصعب حقا تخيل الأمر، ستكون هناك مشاهد مرعبة وفضاعات وكوارث مهولة، ما لم يعد العلم والعالم إلى رشدهما.

* طالب ماستر: الفلسفة والفكر المعاصر، بجامعة محمد الخامس بالرباط. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *