منتدى العمق

كورونا والعودة إلى الفردوس المهمش

هجروا الريف بجماله، وإشراقه، وخضرته وزرقة سمائه بحثاً عن ضجيج المدينة و اكتظاظها، فمعظم هذه الهجرات كانت تهدف إلى هدف واحد صرف هو الهروب من الأزمة و النضال من أجل بلوغ “الخبز”، فساكنة الريف ممن هاجروا إلى المدن سواء بصفة مؤقتة أو نهائية كانوا يبحثون عما يسد الرمق أو لربما أحيانا بحثا عن الحداثة و التعصير، فامتلأت المدن الكبرى بالهاربين من حيف التهميش،وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار مخيال الهجرة عند القروي، و التصورات التي يحملها للمدينة بإعتبارها منتجة للعمل وكل المتع الممكنة والمستحلة، فالمدينة تغري القروي بما تتوفر عليه من خدمات و إمكانيات لا توجد بين أحضان القرى.و بتعدد الهجرات بحثا عن حق مهضوم بقي الريف وطنا لا يكتمل إلا في أحلامنا، وطنا مخدولا و مهمشا لمن مازال يتشبت به وفضاء للمتعة والترفيه في العطل .

لكن اليوم مع جائحة فيروس كورونا يبدوا أن الرؤية تغيرت و انقلبت المعادلات ولو بصفة مؤقتة،أصبح هم القروي المرتدي جلباب التمدين هو الهروب من عدو لامرئي، نحو وطن يوفر له الأمن و الأمان.

إذا كان المغاربة قديما قد واجهوا المرض بلجؤ إلى أكل الجراد و بعض النباتات من قبيل “الترفاس و الخرشف و اللفت المحفور و الكرنينية والحميضة” للحفاظ على حياتهم، فإن الجيل الحالي واجهها بالهجرة، فتطبيق التباعد الإجتماعي، وترك مسافة صحية والابتعاد بالجسد قدر الإمكان و تفادي الاكتظاظ، دفع القروي إلى البحث عن إستراتيجية وقائية مضادة، تعكس التخوف من العدو, وضرورة الاستعداد المسبق له.

فالهروب بالجسد والرحيل به هلعاً وخوفاً من الفناء المحتوم إلى أراضي كانت تؤويهم أول مرة، أصبحت مقاربة وقائية للتعامل مع انتشار الفيروس. فذالك الفلاح الذي لم يتردد يوما في الهجرة و الخروج لاكتشاف خبايا المدينة بعيدا عن الديار، هو نفسه اليوم من هرب مشيا على الأقدام من المدينة الفاضلة نحو الفردوس المهمش ، قاطعا أميلا من الكيلومترات للوصول إليها، فأعادت هذه الهجرة الحياة للمجموعة من البيوت التي كان أغلبها خالية، لتساهم في بروز ظاهرة هجرة جماعية إما مشيا على الأقدام أو بإستخدام النمط ذاته الذي يستخدمه المهاجرين السريين، إلا أن في هذه الحالة لا يستخدم قوارب الموت، بل قوارب النجاة ، ولن يحصلوا على صفة مهاجريين او لاجئين،وإنما صفة هارب إلى الواقع الذي يحميه والهوية التي تأويه.وبالتالي أعادت هذه الحركية المعاكسة إلى بعض المناطق الروح، وحول شبح كرونا البادية من مكان منبوذ لدى البعض بسبب عزلته إلى مكان محبذً للهروب من لعنة كرونا، فكم يتمنى اليوم كل شخص يحمل داخله هوية قروية أن يسكن بيتاً على قمة جبل، ويطيل النظر إلى مروجها و يتمتع بهوائها النقي، فلا يعرف فضل القرية اليوم إلا من عاش في المدينة في بيوت ضيقة متزاحمة، وبات يعرف أن الريف هو المكان الوحيد الغير مكتظ و الملاذ الأخير للهروب من شبح كرونا .

هاهو الوباء اليوم يعيد ترتيب المشهد، وتلميع المرايا و إزالة الضباب عن صورة العالم القروي المهمش الذي خذله الجميع، وتركوه ينتحب في همومه و ألامه و حظوظه التعيسة ، تعلن القرية اليوم انتصارها الرمزي، والعودة المؤقتة لسكانها، المتشبتين بهويتهم وانتمائهم إلى أرضها و الإحتماء بها، فقاموا بخلع جلباب التمدين معلنين أنهم قرويون، منتصرين لمقولة ما أجمل الريف وما أشقى حياة الفلاح،لربما كان من الضروري ان تأتي كرونا منذ وقت قديم ليستفيق فينا القروي ويعيدنا إلى أصلنا، ونرتب علاقتنا من جديد مع الأرض التي ننتمي إليها، وبتعبير درويش سمائي فكرة و الأرض منافي المفضل عاد الفلاح اليوم إلى منفاه باحثا عن الدفء، ومنتصرا للقصة عشق أبدية بين الفلاح وأرضه، فهل فهم القروي الأن درس كرونا فخبز الأرض خيرُ من كعك المدينة، وأن العودة إلى النواة الأصل فرصة لربما لن تتكر في تاريخيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *