وجهة نظر

لا يليق بالإعلامي خرق السفينة في زمن الوباء

يلعب الإعلام دورا هاما في تشكيل الوعي الفردي و الجماعي في المجتمعات الحديثة. وكيفما كانت الوسائط التي من خلالها يتم التواصل، فإن الأثر لا محالة واقع. ولتقنين الممارسة الإعلامية، بلورت مجتمعات عديدة أخلاقيات وضوابط ومرتكزات، توافق حولها مهنيو الإعلام و تفاعلت معهم بشأنها فئات أخرى، بسند قانوني و أخلاقي يضمن لسفينة المجتمع أن تسير في ظروف طبيعية عادية.

وتعتبر حرية التعبير عن الرأي من أهم تلك المرتكزات. فيما يظل القانون هو الفيصل، في حالة تسجيل تجاوزات أو التعدي على حقوق الغير، إما عن طريق القضاء أو بتدخل من هيئات التقنين والمراقبة وضبط حكامة القطاع الإعلامي.

ومما تفرضه أخلاقيات المهنة، خاصة في أزمنة الفتن والحروب والأوبئة، هو عدم استغلال الحق في الحصول على المعلومة ونشرها، و الحق في الإخبار و حرية التعبير، بشكل فيه تجاوزات ينم عن رغبة في خرق السفينة والمجازفة بإغراق أهلها. لذلك، لا يمكن قبول أن تتحول حرية الرأي إلى فرصة يستغلها من يستهويهم لعب أدوار البطولة، وممارسة ابتزاز المؤسسات و الأفراد، واستعراض العضلات باسم “النضال” من أجل قضية ما، و النفخ في السلبيات لتأجيج الحالة النفسية للناس، والترويج لمعلومات خاطئة لخلق البلبلة بافتعال سجالات ومعارك من أجل “حق أريد به باطل”.

ونحن في خضم تدبير آثار جائحة وباء فيروس كورونا، حري بنا أن ننتبه إلى نوعين بارزين من “الممارسة الإعلامية” التي تستوجب منا الاحتياط من خطورتها، واستكشاف أهدافها غير المعلنة وإبرازها، وتتبع المنطق الذي يحرك مرامي أصحابها و المستفيدين منها.

النوع الأول، هو الخاص ببعض “أصحاب رأي” اعتادوا أن يطلوا علينا، إما من داخل الوطن أو من خارجه، ليخطبوا فينا عبر تلفزاتهم أو مواقعهم الإلكترونية، ويحدثونا عن بعض تجليات واقعنا الوطني، فينتقدون ما شاؤوا، و يمدحون ما يشاؤون، كيفما أرادوا.

في أيام الله العادية كنا نستمع إلى بعض هؤلاء و نشاهد ما يبثون، و لم نغال يوما في انتقادهم. من جهة كي لا يقال أن لنا رغبة في أن نحرمهم من “طرف خبزهم”، و من جهة ثانية، لأن ما كانوا يقولونه، بغض النظر عن قبولنا لمضمونه أو معارضتنا له، كان يتم في زمن تسير فيه الأمور بشكل طبيعي، و من حق أي كان أن يتفاعل مع قضايا الشأن العام الوطني إما تتبعا وتقييما، و إما تشجيعا أو انتقادا.

لكننا اليوم في حرب صامتة بدون جيوش وحشود، وأحد أهم الأسلحة هي المعلومة والكلمة. وكل كلمة لها وزنها في المعركة وأثرها على نفوس الناس، وعلى جنود مقاومة الوباء في الميدان. لذلك، أعتقد أن اختيار بعض “أصحابنا” من هذا النوع، أن لا يروا مما في واقعنا سوى ما فيه خلل، وتخصصهم في انتقاد وتسفيه كل شيء، وعدم اقتراحهم لأية بدائل منطقية لتجاوز ما ينتقدونه، وتعمدهم الابتعاد عن أية إشارة إلى أشياء كثيرة جيدة تمت و تتم على عدة أصعدة، هو سلوك يثير الريبة و التساؤل.

بالتأكيد، ليس المشكل بتاتا في أن يقال أن واقعنا فيه أشياء غير مقبولة وسلوكات مرفوضة واختيارات غير صائبة، قد يتورط فيها المواطن العادي أو المواطن الذي يمارس مسؤولية عمومية معينة. تلك أشياء نعرفها جميعا في واقعنا، قبل الوباء وفي خضمه، و لم نكن نخفيها أو ننكرها. بل كتبنا عنها وكنا نستحسن تناولها بالتحليل وإثارة الانتباه إليها وإلى واجب التصحيح والتطوير وتطبيق القانون في حالة كل مخالفة. المشكل، في رأيي، هو في أسلوب التناول وتوقيته وسياقه، الذي يوحي بأشياء لا نريد أن نصدق أنها صحيحة، تحيل إلى احتمال سير البعض في “خط تحريري” يتأسس على منطلقات ذاتية صرفة، ويستغل كل ظرف لتصفية حسابات لا علاقة لها بالموضوعية و لا بالمصلحة الوطنية العامة.

لا شك أن الإنتقاد مشروع ومطلوب، كما هو مطلوب تتبع أداء السلطات العمومية وتحليل السياسات الحكومية في إطار البناء الديمقراطي وتعزيز التعددية. ذلك جزء من الحرية التي نؤمن بها، كما نؤمن بأن الإعلام الحر شرط لتحقيق ذلك. لكن الإنتقاد يجب أن يكون مهنيا وموضوعيا، والمتابعة الإعلامية احترافية، ويجب تفادى التهييج و منطق تصيد الهفوات والتربص بسوء نية، حتى لا نسقط في براثن الهرج و المرج والرداءة.

أما النوع الثاني من “الممارسة الإعلامية” الذي يستحق أيضا أن ننتبه إليه، فهو ذلك الخاص بمواقع إلكترونية “كبيرة”، وأخرى “صغيرة” تسير على نهجها، تخصصت في نشر التفاهة وصناعة “الكراكيز” وخلق البوز عبر الترويج لنماذج غريبة عن نموذج الإنسان المغربي العادي. هذه المواقع التي عانينا من أثر عبثها قبل الوباء، استمر بعضها خلال أولى أيام أزمة كورونا، في نشر صور وفيديوهات يسمونها “مادة إخبارية”، هي في أغلب الأحيان جزء من الحقيقة و ليست كل الحقيقة، يتم السهر على تسهيل تنقلها عبر وسائط التواصل الاجتماعي لتشيع بين الناس ويسود الإعتقاد بحالة من التعميم غير الواقعي، بما لذلك من أثر مباشر في نشر بلبلة لا داعي لها.

للأسف، كل ذلك تم و يتم بداعي “حرية نقل المعلومة”، ويجيز أصحابه لأنفسهم من خلاله تخطي إجراءات واحتياطات لازمة. ولعل ما رأيناه، قبل يومين، بشكل مستفز أمام مصحة طبية لحظة كان يهم بمغادرتها بعض المرضى المتعافين من مرض كوفيد 19، لدليل على الخلط الذي في أذهان كثيرين عن حدود الممارسة الإعلامية المهنية، و بداية العبث والاستهتار.

من المهم أن ننتبه إلى أن تعميم “الإستثناء” السيء في واقعنا، والنفخ فيه وتهييج شخوصه أثناء الحوارات معهم، بغرض تضخيم الموضوع وجلب الانتباه للكلام “التافه”، يحمل فرضية جعل حالة لا تعدو أن تكون استثناء محدود الأثر، تبدو كأنها حالة عامة وشائعة. وبالتالي، يصبح الإستثناء ملهما لسلوكات مماثلة Phénomène d’émulation، وهذا أمر غير صحي ومحفوف بالمخاطر.

في اعتقادي، سواء كانت من النوع الأول أو الثاني، كل ممارسة إعلامية تتعمد خلط الأوراق، خاصة في زمن تدبير الأزمة ومواجهة الوباء الفيروسي الشرس، هي ممارسة تدخل في خانة حالتين اثنتين كلاهما موجب للإدانة الأخلاقية، وحتى للمسائلة القانونية :

– الحالة الأولى، هي تناول وقائع و أخبار، و نشر صور ومعطيات رقمية وفيديوهات، وتعمد تحويرها لتشجيع الارتباك والإيحاء للناس ضمنيا بعدم احترام مقتضيات القوانين العادية والاستثنائية.

– الحالة الثانية، هي تعمد التأثير على الحالة النفسية للمواطنين بغرض إحباطهم وتيئيسهم و دفعهم لترك ساحة المعركة و خيانة المسؤولية الوطنية والابتعاد عن ديناميكية المجهود الجماعي.

أكيد أن كل مواطن مغربي يؤمن بالديمقراطية و بحرية الرأي و التعبير، في إطار القانون واحترام توابث الأمة المغربية، ويؤمن بأهمية تجاوز التنميط السلبي الذي يكون حاجزا يمنع التجديد و الإبداع والتحديث والتطوير الهادف والإيجابي، لا يمكنه أن يدعو إلى منع أي رأي، أو يطلب تقييد حرية أي كان. لكنني على نفس الدرجة من اليقين أن نفس ذلك المواطن يؤمن، أيضا، أنه لا يعقل أن يمارس “صاحب رأي” أو “موقع إلكتروني”، التجارة و يطور “البيزنس الخاص” على حساب مستقبل أمة وشعب و وطن.

اليوم دقت ساعة الحقيقة على كل المستويات. و كما نلح على الحكومة بأن تسهر على حسن سير مصالحها وضبط التجاوزات و المخالفات عندما تحدث، والحرص على شفافية تدبير الموارد وترشيد صرف الإعتمادات و توجيه الإمكانات، والسير على خط تعزيز الثقة بين السلطات العمومية والمواطنين عبر استمرار تقديم خدمات عمومية ذات جودة عالية؛ كذلك علينا جميعا أن نكون واضحين وأن نطلب، باسم المسؤولية الوطنية التي تعلو على أي اعتبار آخر، أن يتم باسم القانون و بما تتيحه مقتضياته، وقف العابثين باسم الممارسة الإعلامية، حتى لا يخرقوا السفينة إذا تمادوا …!

بمقتضيات القانون، وبما هو متاح لمؤسسات حكامة المجال الإعلامي ببلادنا من هامش للتنظيم و الضبط، وبما للمجلس الوطني للصحافة من صلاحيات، وبما لفيدرالية الناشرين من إمكانيات، يجب وقف العابثين عن بث سمومهم، لنستمر بطمأنينة وحكمة في تدبير الجائحة الوبائية، والتعاطي مع ما سواها من تحديات قد يحملها واقع أزمة عالمية زاحفة لم تتضح بعد كل تداعياتها، و نتمم ملحمتنا الوطنية بصرامة واحترافية و وحدة صف، وانضباط لقواعد الحكامة الجيدة والشفافية واحترام مقتضيات القانون وتدابير الحماية التي تستوجبها حالة الطوارئ.

رجاء قولوا للمعنيين بممارسات عبثية ليست من الإعلام في شيء، أن يتقوا الله في بلدهم التي أكلوه من خيرها وفضل رجالاتها، و أن يستقيموا فنحن لا زلنا نأمل أن نراهم في ضفة المسؤولية الوطنية، وننزههم عن أن ترمي بهم أطماعهم وطموحاتهم وغرورهم، بصفة كلية، في ما سواها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *