منتدى العمق

عن بعد

من يتوقع ان تتوقف حركة الحياة هكذا … توقفت المطارات والجامعات، واغلقت المقاهي وهجرت المعابد والشوارع … كل هذا وقع فجأة دون سابق إنذار. إن الغوص في تاريخ الاوبئة ودراسة آثارها ستجدها لا محالة أنها فتاكة وقاتلة ، ففي بعض المرات تسلب ارواح ربع أونصف سكان بلد كلما حلت هذه الاوبة عندهم وفي بعض اللحظات أفنت شعوبا بالكامل. لكن هذا التاريخ مرتبط بقبل الثورات ( السياسية ، الثقافية ، الصناعية، الطبية ….) هي ثورات لايمكن حصرها في شكل معين فجميع مكونات الحياة الاجتماعية تغيرت وازدهر الجانب الاقتصاد والاجتماعي وحقق انسان العصر الحديث الانتصار على الجوائج والامراض وعرف كيف يكبحها ويقضي عليها مما زاد ثقته ويقينه بأن مثل تلك الاويئة، لن تعود أبدا وجردها من حساباته… بهذه التخمينات والثقة في الذات سينتهي المطاف بالانسان الحديث على حافة فاجعة كونية .

ظهرت بعض الاشارات مطلع القرن الواحد والعشرون بعد هجوم “سارس” ، وهذا ما كان تجربة مثمرة في يد بعض البلدان لأستثمار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي للتعامل مع احتمال عودة وباء أكثر فتكا من “سارس” ، فأضحت تقوم بتجاريب وتداريب سنوية للتعامل مع أي وباء يحل عليها ضيفا غير مرغوب فيه . لقد بات الامر شبيه بمناورات عسكرية وتأهب لاي هجوم حربي.

إن هذه الدول هي التي ربحت اليوم مسافة واستطاعت التعامل والتجاوب بسرعة إيجابية مع الفيروس المستجد وفي المقابل نجد دولا لا تدرج في ميزانياتها السنوية حتى ” تدبير المخاطر” كإجراء وقائي من أي كارثة قد تقع في أي لحظة … اليوم هذه الدول المتقاعسة تتعتمد على تجربة تلك البلدان وتتلكأ على اية تجربة محلية لتنتظر خلاصها على نهر كوفيد19 ..

إن ما لفت انتباهي في أزمة هذه الجائحة هو أن كل شئ أصبح عن بعد ، غير أن هذا لا ليس بجديد ، وأتذكر احد الايام لما كنت احضر مداختلي لمادة ” التحولات الثقافية” في سلك الماستر، ذات ليلة اطلعت على كتاب ” النقد الثقافي ” واستوقفتني فكرة” للغدامي” مؤداها: لقد انتقلنا من الثقافة الشفهية الى المكتوبة ومن الثقافة المكتوبة الى ثقافة الصورة. دمجت هذه الفكرة مباشرة مع أطروحة السيولة لزيغموند باومان والتي تطرق فيها الى مجمل قضايا عصر التكنولوجيا ، فخلص الى كل شئ أصبح سائلا وفاقدا لصلابته . فالعلاقات العاطفية لم تعد كما كانت في السابق فنجدها تتلخص في نقرة زر واحد ( بنقرة واحدة تضيف صديق وبنقرة أخرى تلغي صداقته على شكل blouquer . إن الا مر يشبه شئ تضع في جيبك العلوي بمجرد ان تنحي الا وسقط ) أما الامر الذي يدهش قارئ هذه الاطروحة هو نص المراقبة السائلة ، فالكل مخاضع لمراقبة طوعية ، يقدم فيها الفرد معلوماته طوعا على منصات التواصل الاجتماعي بدون استفسار بوليسي ( ها أنا سافرت … اكلت هذه ,… احب هذا … اسكن هنا … أقرأ هذا … لا أحب هذا ) ، بسهولة جدا يمكنك التعرف على المرء من خلال متابعة تغريداته او صوره أو النبش في لائحة أصدقائه … من السهل اخضاع المرء لسطلة لا مرئية.

وتجدر الاشارة الى أن من الاوان استعمال عن بعد كمفهوم قائم بذاته بالرغم من اكتسابه مكانة مرموقة في هذه الازمة . فالتعليم عند بعد ، التطبيب عن بعد والمحاضرات والندوات باتت تبث على منصات الفايسبوك الذي طالما اعتبارناه عالم المثل يخلقه الفرد لتجنب ما لا يرغب فيه ويجمع فيه من يعجب بهم ويعجبون به .

اليوم قد نفترض ولا نجزم أن هذه القاعدة قد تلغى ويصبح هو الواقع .

لقد تطرقت العديد من الاعمال سواء الفنية أو الروائية أو الادبية الى هذا المستقبل التي تكون فيه مجمل العلاقات والانشطة الاجتماعية عن بعد. و يجسد فيلم ” هي ” her الذي لعب فيه ممثل الجوكر الاخير ” خواكين فونيكس دور البطل احدى النبؤات، حيث يطلق زوجته ويدخل في نوبة نفسية كعادة الرجال بعد الطلاق. فهو يعيش وحيدا ويشتغل ككاتب رسائل ويعشق العاب الفيديو. صدر احدث جهاز تشغيل وصنف الاذكى في العالم، يقرر البطل شرائه منا باب الفضول المعرفي الا أن المفاجاة التي تنتظره هي لم بعد الا سماعه صوت سامنثا الذي يشبة صوت امرأة. فيقع ثيودور هو الاسم المستعار في الفيلم في حب سامنتا فبات مجبرا على التعامل مع وضعه الحالي وتبادل مشاعره العاطفية مع جهاز قد لا يعدو قطره خمسة سنتميترات. إن هذه الفكرة كانت بمثابة استشراق لمستقبل بعد الدمى الجنسية ، على أي حال هذه الافكار لا تروق للكثير سماعها او مشاهدتاها وقد تبدو لدى البعض بالية ولا تنفع في شئ ، بل احيانا يتم تكفيرها لدى بعض الدوغمائيين الا أنها تبدو مهمة وغاية في فهم اتجاه تطورات العصر .

وساختم بقول مقتبس للشاعرة ” رييس” أن ما يقف امامنا لفهم وتقبل الوضع هو ما تصنعه بنا الايديولوجيات والديانات وكل أشكال الايمان الجماعي بما فيه العلمية من كائنات لها تفكير مصطنع محدود بنظام من القيم يمنعنا من ان نكون نحن انفسنا وأن نصل الى حقيقتنا لتقبل ما يجري حولنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *