رمضانيات

الإشارات السياسية في قصة موسى عليه السلام .. الحلقة الأولى

الحلقة الأولى

بعد القَبول الذي عرفته السلسلتان الماضيتان؛ “من الوهابية إلى الإسلام” و“نظرية الأخلاق في الإسلام”، فإن عزمي كان شديدا على أن تكون سلسلة هذا العام حول استقراء مشروع التنوير الإسلامي. وقد قضيت أياما مجتمعات أو متفرقات، أتتبع هذا المشروع بغية الخروج بخلاصات تميز التنوير من التزوير. وحتى كاد يتم القصد لنفاجأ بهذه الجائحة التي نسأل الله أن يرفعها عنا وعن الناس أجمعين. والحقيق أنه بعد دخولنا في ‘الحجر الصحي’ لم تعد لي رغبة في شيء؛ لتشتت ذهني وانشغالي باللغط الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وحتى ما كاد يفصلنا عن دخول الشهر الفضيل إلا بضعة أيام، حتى تواصل معي الصديق إسماعيل الأداريسي رئيس تحرير موقع “العمق”، يسألني إن كانت هناك من سلسلة، فحكيت له ما حصل معي وطلبت منه أن يمهلني يوما لعلي أفكر في سلسلة لطيفة ظريفة، لا تتطلب مني الكثير من الجهد والترحال الشديد بين المصادر والمراجع، حتى استقر بي الحال إلى هذه السلسلة “الإشارات السياسية في قصة موسى عليه السلام”.

والحقيق أن هذه السلسلة كانت فكرة تراودني باستمرار بما حضيت به من ذكر في القرآن العظيم بما لم تحض به قصة أخرى. وظني أن هذا راجع إلى أن سنن الاجتماع، والسياسة، وجدل الإصلاح، لا يخرج عن كونها قوانين ثابتة تماما كما هو الحال بالنسبة لسنن المادة، وورود قصة موسى وتفصيلها هو من باب الأنموذج الذي يصح قياسه على وضعيات شبيهة ومتكررة بالضرورة. وإنه لئن كانت قوانين وسنن الطبيعة أمكنت للإنسان السيطرة عليها حتى أخذت الأرض زخرفها وزينت وظن الإنسان أنه قدر عليها، فإن سنن الاجتماع والسياسية تبقى أكثر انفلاتا وتعقيدا، وتحتاج إلى كثير من التأمل والتتبع حتى يتميز الثابت من المتحول، والفرع من الأصل. وهذا ما نحاول العمل عليه في هذه السلسلة.

ورغم أن قصة موسى عليه السلام تدخل في باب المقدس، ونحن هنا نتتبعها في كتاب مقدس؛ فإن استخلاص والتقاط الإشارات لا يحتاج إلى اصطفاف عقدي بقدر ما يحتاج إلى التجرد، فقصة موسى وفرعون هي قصة للعبرة العامة، وإلا لما كان حاجة لورودها بعد نسخ شرعتها، وهذا وارد في كل قصة معتبرة تستحق المتابعة والتقاط الإشارات المختفية في طيات الخطاب. إننا نؤمن أن التاريخ يعيد نفسه، ليس بشكل ميكانيكي مفضوح وممل، ولكنه يعيد نفسه متنكرا؛ مما يجعل المتتبع العادي يتيه في الأعراض. والنص القرآني، وقصة موسى عليه السلام، وإن كانت لها خصوصية من جهة انتسابها للوحي لا الإيحاء فإنها تبقى صالحة للنظر فيها والبحث عن الوعي المختفي والبنيات السياسية الكامنة تماما كما يحصل مع أي نص آخر، وسوف يدرك القارئ الكريم ما أقول بعد توالي الحلقات.

وقد يقول قائل إن تاريخ الأمس، وطبيعة مجتمع الأمس متناظران. وأنا أعي هذه الفروق بما أوتيت من معرفة في ارتباط بمعارف أخرى، لكني بكل حال لست هنا بصدد مقاربة اجتماعية، وربما يكون الأمر أكثر تعقيدا في هذا الاتجاه لشح المعطيات، ولكني لا أحسب أن الأمر نفسه ينطبق على التقاط الإشارات والدروس السياسية، فالأمر يكاد يكون محسوما في كثير من السنن التي تحكم عادة علاقة الحاكم بالمحكوم والمصلح بالطاغية. بل إني قد أذهب بعيدا في القول إن الكتب التي نظرت عادة لهذه العلاقات تتباعد عنا في الزمن لكن حضورها واقعا اليوم لا يمكن تجاهله، حتى وكأن الكاتب يتحدث عن زماننا هذا. إذن؛ فلا بد أن هناك بنيات ثابتة تتحكم في الفعل وردات الفعل؛ بما قد نطلق عليه سلوكا إنسانيا غريزيا. وأنا لا أعمم هذا القول على جميع الأنظمة التي قد تتناقص فيها حدة هذه السلوكات بسبب المقاومة والإصلاح، لكن الفعل الغريزي يبقى كامنا حين تستدعيه الضرورة مرة أخرى. فسقوط الخلافة الراشدة لم يعقبها إلا تمركز السلطة من جديد، وأنوار أوروبا أبطلتها دكتاتوريات النازية والفاشية وعودة السلطوية، وهذه سنن التاريخ، لا تبديل لسنن التاريخ.

وغايتي وخطتي في هذه الحلقات أن أتتبع ما ورد في النص القرآني وأكتفي به؛ لأستطيع في النهاية الوصول إلى السنن والقوانين والدروس الكامنة في علاقة المصلح بالطاغية. ولن أكون مضطرا بالضرورة إلى الحفاظ على الترتيب القرآني، ولكني سأحاول إعادة ترتيب القصة دون الإخلال بالنص أو تجريده من خصوصياته البنيوية. فحفاظي على البنية السردية والبلاغية هو على نية الحفاظ على متعة النص وليس فقط الخلوص إلى قوانين مجردة. وعليه فاعتبار القارئ وشد انتباهه إلى التفاصيل شيء يجب مراعاته.

وبالله التوفيق والسداد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *