وجهة نظر

وباء العصر.. ورزازات ما بعد كورونا

بعدما كانت مدينة ورزازات يضرب بها المثل في الالتزام بالحجر الصحي و احترام حالة الطوارئ و كانت كل الامور تسيير على ما يرام دون تسجيل اي اصابة واحدة ، و بعدما كان الكل يهتف باسم ورزازات من مشاهير و رجال اعلام و نالت من التصفيقات و الهتافات ما كان فخرا لها و لساكنتها ، اضحت اليوم بؤرة من بؤرة هذا الوباء اللعين الذي انهك النسل و الحرث و الاقتصاد ، حتى لم نعد نفهم ما الذي يجري و كيف حذث ذلك .

لا ننكر ابدا ان ساكنة هذه المدينة حافضوا على التزامهم امام هذا الوباء المنتشر ، و ابانوا عن وعي جيد في هذا الشأن ، لكنه لم يكن سوى ذاك الهدوء الذي يسبق العاصفة. فرغم كل هذه الصارمة و الاحتياطات في التعامل مع انتشار المرض قد ظهرت بعدها بضع حالات في حي او اثنين كانت بالنسبة للمواطن في هذه الارض صدمة لم يستوعبها و بثت الهلع بين ساكنته ، لكن لم يكن يعلم هذا المواطن ان الاسوء لم يأتي بعد .

حتى استفاقت الساكنة في صبيحة يوم عصيب على خبر ارتفاع الحالات الى ارقام خيالية يستحيل على العقل السليم استوعابها، و في ظرف يومين فقط اضحت بؤرة من اخطر و اكبر البؤر بالمغرب و التي انتشر فيها المرض بشكل سريع جدا و واسع النطاق لا يمكن تحمله.
كل هذه الحيثيات يعلمها الكل اليوم و يحفضون تفاصيلها ، لكنها ليست سوى مقدمة لما هو قادم . فعندما يصل الحال بهذا الوضع الذي عليه اليوم فاننا امام استهتار و تسييب و لامبالاة بارواح البشر ، فلا يختلف اثنان انه قضاء و قدر و لا اعتراض على قضائه ، لكن ان نشهد هذه الطفرة المستحيلة فاكيد ان هناك خلالا ما و يجب ان نستوعب الموقف و نتدارك الامر.

و الاكيد اننا سنتجاوز هذه المحنة طال الزمن او قصر ، لكن الحال لن يبقى كما هو عليه و سنشهد بعض التحولات و التغييرات على مستوى جميع القطاعات سواء منها الاقتصادي او الاجتماعي بل و حتى السياسي .

إن نهاية هذا الفيروس -الذي انطلق من مدن مغربية عديدة و التي كانت مدينة ورزازات اخرها – لم تلح بعد في الأفق، وإن كان كثيرون يرون أن تلك النهاية ستكون علامة فارقة قد تقلب الأمور رأسا على عقب

لكن بدلا من التنبؤ بأن الآمال ستتحقق من تلقاء نفسها، قد يكون من الأفضل الاستعداد لتصحيح واقع يبدو صعبا على المدى القصير والمتوسط، لأنه من الممكن -بل من الراجح- أن العودة إلى الوضع الطبيعي ستصاحبها بعض التعديلات، ولكنها ليست تغييرات عميقة.

ومما لا شك فيه أن الشركات ستسعى إلى ضمان توفير إمداداتها بشكل أفضل، وأن النظام الصحي سيعيد تنظيم نفسه بشكل مفيد، كما أنه من المؤكد أن الدولة ستفكر في تأمين استقلالها فيما يتعلق بالمنتجات الإستراتيجية؛ ولكن هذا كله لا يعني تغييرا في النموذج الاقتصادي أو الاجتماعي..

فالتاريخ يؤكد أن الجوائح أدت إلى تغييرات جذرية في المجتمعات وعلى كل المستويات. فالطاعون الذي يعتقد أنه قضى على ثلث سكان أوروبا، أدى الى تطوير قطاع الزراعة ودفع نحو دور أكبر للمرأة بسبب تراجع اليد العاملة المتوفرة. كما أدى الى استعمال أوسع للفحم الحجري كمصدر للطاقة، ما مهد لاحقا لقيام الثورة الصناعية.

والتحدي الأول الذي ستواجهه المجالس و الحكومات في برامجها السياسية المقبلة هو كيفية تجنب تكرار ما حصل. فهذا الموضوع سيتصدر كثيرا من الحملات الانتخابية في المرحلة المقبلة. وعلى الأحزاب المتنافسة والحكومات الإجابة على هذا السؤال وسيفرض نفسه على الساحة السياسية .

بالاضافة الى ان التجربة التاريخية أثبتت أيضا أن الجوائح أثرت كثيرا في الفكر والفلسفة والدين. فلطالما اعتبرت الجوائح عقابا إلهيا على الفساد. فالأفكار الدينية شهدت نقاشات كثيرة أدت الى بروز تفسيرات عديدة و مقاربات فكرية كثيرة دعمتها لاحقا الثورة الصناعية. وفي المقابل برزت أيضا أفكار ذهبت الى الحدود القصوى في الخروج عن الدين ومساءلة العدالة الإلهية. ومع أن هذه الأفكار قطعت شوطا كبيرا في القرن الماضي فإن هذه الجائحة قد تدفع أكثر نحو أفكار وإيديولوجيات جديدة تتعلق بالإنسانية وبمفاهيم التعاون البشري.

بالاضافة الى تغييرات كثيرة على المستوى الحياة اليومية للمواطن و اكتشافه لكثير من الامور كان من الممكن ان يستغني عنها في الايام العادية بل سيكتشف انها لم تكن سوى قيمة مضافة في روتينه اليومي و التي كان يعتبرها جزء من حياته لا يمكن ان يتنازل عنه .و مثال ذاك البريق الذي كانت تتوهج به المقاهي و المطاعم و الحانات و غيرها اضحت خلال هذه الفترة مجرد عنصر زائل يمكن حقا ان يعيش الانسان بدونه و بالتالي فالمنظومة الاقتصادية لهذه المرافق ستتاثر بشكل كبير في فترة ما بعد الحجر الصحي خصوصا ان الانسان اخذ يتعايش مع الوضع الحالي و اضحى يعرف حقا اين يمكن ان يستثمر امواله بدلا من وضعها في المكان الخطأ ، اذن فاننا امام تغيير جذري على مستوى المنظومة الاجتماعية و تغيير على مستوى التدبير المالي الفردي للمواطن و الذي سيأثر بشكل كبير على اغلب القطاعات بالمدينة .

يقول هنري كيسنجر السياسي و الفيلسوف الامريكي : “تتماسك الأمم وتزدهر عندما يمكن أن تتنبأ مؤسساتها بالكارثة، وتوقف تأثيرها وتستعيد الاستقرار. وعندما تنتهي جائحة كورونا سيتم النظر إلى مؤسسات العديد من البلدان على أنها قد فشلت. لا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلاً بشكل موضوعي. الحقيقة هي أن العالم لن يكون كما كان بعد الفيروس التاجي. إن الجدال الآن حول الماضي يجعل من الصعب القيام بما يجب القيام به.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *