الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية”4: الغذاء وسلطة العادة بين الفردي والجماعي

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

الحلقة 4:

 الغذاء بين سلطة العادة ورمزية الطقس

الغذاء وسلطة العادة 

لقد كان موضوع العادات الإنسانية مثيرا أول الأمر لاهتمام الفلاسفة، إذ وجدناهم يتطرقون إليه في معرض حديثهم عن الذاكرة وخصائص العقل الإنساني. ونورد هنا مثال لوران بوف (Laurant Bove ) الذي قام بقراءة فكر سبينوزا حول الجسد معتبرا الذاكرة ” نوعا من تسلسل الأفكار الذي يخص الأشياء الخارجة عن الذات الإنسانية  طبقا لما اعتاد عليه العقل من ربط الصور بالأشياء “.

البعد السيكولوجي للعادات

انطلاقا من وجهة نظر سيكولوجية، سيعتبر بول كيوم  (Paul Guillaume) أن العادة هي طريقة مكتسبة للعيش، التصرف، الإحساس والتفكير، كما أن هذا الاكتساب يتم بالأساس نتيجة التكرار و الإعادة لهذه الطريقة، وربما أن الفيلسوف أرسطو قد انتبه إلى ذلك منذ القدم عندما رأى أن  العادة تبدأ عند أول فعل.

لقد ذهب هذا الباحث إلى أن إضفاء خاصية التكرار على مفهوم العادة يزيح عنها العديد من الخصائص التي ينبغي توفرها فيها، إذ لا يحيلنا التكرار إلى ما يمكن أن يطال الفعل المؤدي إلى تكريس عادة من تغيير يحصل معه التعلم التطور والتأقلم.

غير أنه يصعب مع ذلك التمييز، الذي غالبا ما يكون مصطنعا وتعسفيا، بين الفعل الذي نكون أثناءه نتعلم عادة والفعل الذي يجسد اكتسابنا لهذه العادة، ذلك أن التعلم قد يستمر عند ممارستنا أي فعل ويمكن ملاحظة ذلك على مستوى التغير والتطور الذي يطرأ على أفعالنا عبر الزمن .

كما رأى بول كيوم أن السلوك الاعتيادي لا ينم بالضرورة عن حاجة معينة، ذلك أن العادة قد تكون مجرد تقنيات بسيطة تم اكتسابها، أو فعلا يعبر عن موقف معين كالكراهية، التعب و عادة التقزز من منظر أكلة معينة لا نحبها  رغم  أن الأكل هو تلبية لحاجة بيولوجية.

من هنا سيعتبر هذا الباحث أن العادة أو السلوك الاعتيادي يتكون من مجموعة من العناصر المعقدة التي تحكم اندماج الفرد عضويا واجتماعيا في المجتمع.

إلا أنه رغم أهمية مساهمة بول كيوم في رصده لموضوع العادات الإنسانية، غير أن اقتصاره على البعد السيكولوجي، يجعلنا نتساءل عن مدى نجاعة طرحه بالنسبة لموضوع العادات الغذائية .

البعد الوظيفي للعادات الغذائية 

 رغم انطلاقه من مقاربة نفسية محضة، سوف يؤكد بول كيوم على البعد الوظيفي للعادات التي نكتسبها، إذ يعمد السلوك الاعتيادي المكتسب، في نظره، إلى تحقيق توازن ما وتكيف مع الوضع.

وإذا كان التكيف يظل نسبيا ولا يحدث دائما، فإن التطور في فعل معين يرجع  إلى مجموعة من المثيرات التي تجعل من الفعل سلوكا فعالا بالنسبة للفرد، ذلك أن الفشل أو النجاح في سلوك معين يتم تقديره حسب الشخص، بل وحسب درجة اللا توازن التي يشعر بها الفرد، هذا التوازن الذي يجعله يعتقد أن سلوكه الاعتيادي ماض في تحقيق استقرار له.

هنا يعتقد المؤلف أن السلوك الاعتيادي وإن كان يطمح إلى الاندماج والتأقلم، فهو يتخلله نوع من فرض الذات والسيطرة كرفض تناول أغذية معينة من  طرف الطفل لمجرد إثارة الانتباه.

البعد الرمزي للعادات الغذائية  

هناك مجموعة من الأغذية التي تحظى بقيمة رمزية معينة كالخبز والحليب، وإذا كنا سنتحدث عن الخبز في أحد الفصول اللاحقة، فإنه بالنسبة للحليب أشار بيير موريل  إلى أن الحليب رغم أنه غذاء أساسي للأطفال، يحيط به نوع من القداسة تجعله يحمل قوة رمزية تضعه جنبا إلى جنب مع العناصر الأكثر حيوية وأهمية في الحياة (كالماء، الدم و النار…).

إنه غذاء أسطوري بامتياز،  يرتبط بعاطفة الأمومة التي تمد الرضيع بالحياة، وهو ما يفسر أيضا حضوره في المخيال الديني باعتباره بركة وغذاء الطفولة الأولى الذي يمن به الله علينا حسب تعبير القديس أوغسطين.

فعادة تناول الطفل الحديث الولادة للحليب لا يروم اقتياته واستمراره في الوجود فقط ،  بل هي أيضا إحاطة وعناية إلهية بالمولود، إنه قناة عاطفية لتمرير حنان واهتمام الأم، وهو أيضا غذاء مقدس في جل الأديان والعديد من المعتقدات الشعبية  التي تحرم سكبه أو تدنيسه، وذلك حتى لا تلحق فاعل ذلك اللعنة وتحل عنه البركة.

غير أن الحليب قد يفقد قيمته الرمزية أحيانا لأغراض اقتصادية ونتيجة ظروف تسويقه التي تقتضي التعامل معه كسلعة، كما قد يؤدي غياب ظروف التبريد في بعض الأوساط  القروية مثلا  إلى ترك منتوج الحليب عرضة للتلف. 

العادات الغذائية بين الفردي والجماعي 

بيد أنه إذا تساءلنا عن كيفية تشكل العادات الغذائية ودور الآليات الاجتماعية في صياغتها، سيلقي بنا  ذلك من جديد في ما يمليه تعقد الفعل الغذائي  بمختلف المحددات التي تحكمه، وهنا نشير إلى مساهمة تلقي الضوء على تكون العادات الغذائية والتربية على الذوق قامت بها الباحثة ماتي شيفا (Matty Chiva ).

لقد أكدت هذه الباحثة أنه في مجال العادات الغذائية يلعب التعلم دورا أساسيا للانتقال مما نحن عليه بيولوجيا إلى ما سنكون عليه ثقافيا، إذ يتعلم الفرد ليس ما يميز مذاقا عن غيره،  بل المعايير التي تجعله كذلك (نفور بعض الفرنسيين مثلا من الحلويات الشرقية باعتبارها مسكرة أكثر من اللازم في نظرهم)، كما يستدخل أيضا سجلا كاملا من الأغذية وتصنيفاتها (الما يؤكل، المحرم ،الاحتفالي…). 

وهنا يؤكد هذا الطرح من جديد على أن الأكل رغم أنه شأن فردي فهو يتم في إطار اندماج الفرد في الجماعة وتعميق أواصر التضامن واللحمة بين الأفراد.

 ففي نهاية المطاف، لكل فرد قصته مع اكتسابه للعادات الغذائية، ويبدو أن الذاكرة تلعب دورا هاما في التعلم، وهي تفسر كيف تلاحقنا العادات الغذائية التي اكتسبنها منذ الصغر محملة ببوتقة تجمع الروائح، الأفراد، الأطباق، الأجواء وحتى المشاعر.

وهنا نورد مثالا على إقبال ساكنة السواحل عادة على السمك الذي يمكن تقديمه للضيف أيضا،  في حين نسجل نفور ساكنة بعض المناطق الداخلية من السمك واعتبار تقديمه للضيف إهانة له، غير أنها قد تبدي إقبالا كبيرا على استهلاك اللحوم بشكل يكاد يكون يوميا، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على اكتساب ساكنة منطقة معينة لذات المعايير التي تجعل غذاء ما ذي أو ليس ذي  قيمة .

يمكن القول أيضا مع ليفي ستروس من جديد أننا لا نتناول غذاء ما لأن طعمه جيد، بل لأن أيضا ما يجعلنا نفكر فيه جيد أيضا، وهنا نؤكد أن ترسيخ عادات غذائية   يحفه العديد من المشاعر، المعتقدات والأفكار.

إن ما يثير تساؤلنا هنا هو العناصر الأكثر مقاومة للتغير في بنية العادات، هل تسجيلنا لهذه العادات على مستوى الذاكرة ما يجعلها صامدة أمام التغير ؟ أم أن تسجيلها أصلا لم يكن ليتم دون أن تكون حاملة لمجموعة من الروافد الاجتماعية الدالة بالنسبة إلينا ؟ ثم ماهو ترتيب درجة مقاومة العادات الغذائية للتغير حسب تصنيفها : عادات غذائية دينية، اجتماعية، يومية، دخيلة …؟

تتداخل مجموعة من السجلات عند تثبيت أو لفظ العادات الغذائية، تتوزع بين سجلات بيولوجية، ثقافية، اجتماعية، تاريخية،  اقتصادية ونفسية، غير أن هذه السجلات 

كمضامين قد تختفي مقابل صمود العادة في حد ذاتها، حيث يقبل الأفراد أكثر على تناول الأطباق التي تعودوا عليها وليس بالنظر إلى حمولتها الاجتماعية والثقافية بالدرجة الأولى.

وكمثال  على ذلك  نشير إلى الحرص على تقديم بعض الأغذية للدلالة على أشياء معينة دون أن يضل القصد من هذه الدلالة قائما، كاستمرار تحضير بعض الوصفات التي تحضر عادة في مناسبات معينة فلاحية أو اجتماعية دون أن تكون المناسبة قائمة بالفعل، هذا فضلا عن الاستمرار في  الاحتفال غذائيا ببعض المناسبات الدينية، حيث نجد كيف تحرص بعض الأسر على إعداد بعض الأطباق الخاصة في أعياد دينية معينة  دون أن يكون الوازع وراء ذلك دينا فعلا، بل هي العادة التي  تفرض وجودها وتقاوم التغير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *