منوعات

الإشارات السياسية في قصة موسى .. المن الإلهي على المستضعفين في الأرض

الحلقة 3

“ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين”. والإرادة الإلهية هنا بالمنة إنما جاءت مفتوحة على كل حقبة بدليل ورود زمان الفعل على المضارعة، أي الحال والاستقبال، وقد يكون من باب جعل القصة تخرج من صيغتها الماضية ليحس السامع أنه يعيشها في زمانه وليست مخصوصة ببني إسرائيل. فالمنة ليست مخصوصة بـأحفاد الأنبياء بدليل المنة على أصحاب رسول الله وكل من يجيء من بعدهم، حين تتحقق الشروط التي تمليها الآيات التي ليست تفهم ضرورة في دائرة المقدس.

والاستضعاف ليس شرطا لتحقيق المنة إذ ليس كل مستضعف مستحق للاستخلاف بدليل قوله تعالى: “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا” ونجد أيضا هذا الحوار الغليظ بين كبار المجرمين والمستكبرين، وبين أتباعهم المطيعين المستضعفين إذ يرد بعضهم على بعضهم القول. “وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه، ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون”.

فالاستضعاف ليس مبررا للوقوف جانب المستكبرين والمجرمين ولا ضامنا لتحقيق النصر والاستخلاف حتى ولو طالت السنين. وإنما هناك نوع من الاستضعاف الذي يكون مقرونا بالإرادة في التغيير وفي مواجهة الجبابرة، وأهل الرأي، والسواد، كما نلمس هذا الاعتراف القليل والنادر من لدن مستضعفي قوم صالح حين صرحوا بتأييدهم للنبي على جبروت من استكبروا، يقول الله تعالى: “وقال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون “. فالضعف والاستضعاف إنما هو شعلة التغيير حين يقترن بالإرادة، والتضحية، والصدق، وهذا دأب الأنبياء والمصلحين عبر الزمان والذين لا يخرجون عن مسمى المستضعفين حتى وأن موسى لم يكن مستضعفا ولم ينشأ مستضعفا، ولكن النبي والمصلح والثائر إنما ينبعث غالبا من طبقة المستضعفين، ويشعر بآلامهم وأمالهم، كما حدث مع موسى الذي ذاق العذاب في ترحاله، ورعيه للغنم لسنوات حين استضافته في بيت شعيب.

يقول الله متحدثا عن الجبابرة وصفهم الأنبياء بالضعف: “قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز”. فما كان الاستضعاف شرط بني إسرائيل لتحقيق النصر على استعباد فرعون، ولكن هناك إرادة تستجيب لها إرادة القدر حين تقوم الشروط تماما كما يستجيب العلم الطبيعي حين تقوم شروطه. فالتمادي في الظلم والقهر يكون في الغالب باعثا للرفض وبداية للتخلص من الخوف الذي تقتات منه الأنظمة التي تعول على التخويف. حتى لنلمس هذا العزم الممزوج بالخوف عندما احتدم الصراع بين موسى وفرعون وخاف بنو إسرائيل أن ينهزم موسى ويعود فرعون قويا كما كان، وينكل بمن آمن بموسى “قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون” وهل يوجد استضعاف واستخفاف أكبر من أن يقتل فرعون كل مولود ذكر فقط لأن الكهنة حذروه من مولود ذكر سيهدم عرشه من بني اسرائيل؟

ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون. فمنظومة الظلم والإفساد هي على هذا التراتب : طاغية ووزير يزين للطاغية أعماله، وجنود يلقون بأنفسهم وقودا لهذه النار المستعرة. لا تنفك عن بعضها بعضا ولا يقوم بعضها من غير بعض، كلها تحذر وتقاتل من أجل الإبقاء على عرش فرعون قائما بفعل ما تم تأويله من قصة رؤية رآها الطاغية . قال قتادة: كان لفرعون رجل ينظر له ويخبره, يعني أنه كاهن, فقال له: إنه يولد في هذا العام غلام يذهب بملككم, فكان فرعون يذبح أبناءهم, ويستحيي نساءهم حذرا, فذلك قوله: ” ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون”.

وقد يقول قائل، وحق له القول إننا لم نستطع أن نخرج القصة من دائرتها الدينية. وأنا أتفق مع هذا الطرح، وقد كتبت قبل إن القصة تنتمي لمجال المقدس. فقوله تعالى: “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا” دلالة على تدخل الوحي، وهذا مخالف لما تقوم عليه الثورات عادة عبر التاريخ من الشروط المادية. ولكني أقول إن انتماء القصة لمجال المقدس لا ينفي عنها أخذها بالأسباب الكونية، فبنو إسرائيل امتحنوا وذاقوا العذاب وخافوا وصلبوا وقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولم يتدخل الله ليعصمهم من الأذى بالإطلاق. وقد مر معنا كيف أنه لما اشتكى بنو إسرائيل قال موسى: “عسى ربكم أن يهلك عدوكم”. وهذا فيه دلالة على أن النبي ليس لديه ضمانة ولا اطلاع بالغيب، ولكنه يأخذ بالأسباب كما يأخذ بها كل مصلح، بل إن ما مر به موسى يمكن أن نلمس نهايته في كل عملية نحو الإصلاح والتغيير.

يقول القرآن: “ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون” وقد يفهم بعض أن الأنبياء لهم ضمانة إلهية غير مشروطة، وهذا فهم لا يستقيم مع حركة التاريخ ودعوة الأنبياء، فالنبي يوقن بنصر الله ولكنه يعمل، ويمتحن، ويسجن، ويعزى، ويربي، ويدعو بالليل والنهار، وهذه وظيفة كل مصلح مهما اختلف اتجاهه ودرجة إيمانه المادي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *