الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية”5: الغذاء كطقس بين الاقتيات على الكلمات وإثارة العواطف

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

الحلقة 5

الغذاء بين سلطة العادة ورمزية الطقس

العادات الغذائية كطقوس

إن ما يمكن أن يؤكد  أيضا البعد الثقافي للفعل الغذائي هو إمكانية حديثنا على الطقوس الغذائية، فبعدما كان الطقس حكرا على الحقل الديني،  كيف تتمظهر العادات الغذائية كطقوس، وما هو المظهر الأكثر مقاومة للتغير: العادة فعلا أم الطقس ؟

الطقس: من الدين إلى المائدة

اعتبر جون كازنوف (Jean Cazeneuve) أنه لا يمكن إعطاء تعريف  محدد  للطقس إلا داخل سياق معين، من هنا أمكن نعته كسلوك يحكمه التحفيز العاطفي، أو سلوك نمطي، إنه في نهاية المطاف سلوك جماعي لا يروم تحقيق أهداف عقلانية وواضحة بقدر ما يعبر عن الروابط الاجتماعية، كما تحكمه غالبا معتقدات فوق طبيعية، سحرية أو دينية .

 لقد تعددت المقاربات السيميائية لمفهوم الطقس، حيث استعمل كمرادف  للمراسيم  بالنسبة لبعض المهتمين بموضوع الفلكلور، كما هو الحال بالنسبة لأرنولد فان جنيب (Arnold Van Gennep) في كتابه حول طقوس المرور،  كما تعامل اليونان مع ” الطقس”  كشعيرة مرتبطة بمفهوم آخر هو الواجب، هذا الواجب الذي يتمثل في الخدمة العامة التي يقدمها أغنياء المدينة للشعب  برمته.

وإذا كان وصفه كحفل سوف يخرجه من السجل الديني إلى السجل الدنيوي، فإن تعريف الطقس من طرف مؤرخي الأديان كإطار شكلي خال من المعنى، أو كشيء مثير للضجر بفعل الروتين الذي تكرسه الحركات النمطية، سوف يكرس هذا الانتقال. 

لئن ظل  تناول  موضوع الطقوس حبيس الحقل الديني في الدراسات الأنثربولوجية،  فإن انفتاح الإثنولوجيا على المجتمعات الحديثة قامت بتوجيه البحث إلى مظاهر أكثر دنيوية للطقوس .

بالنسبة لدوركايم،  تعتبر الطقوس “طرقا للتصرف لا تظهر إل داخل الجماعة، وتعمل على إثارة، حفظ أو خلق بعض الحالات الذهنية لهذه الجماعة. وهنا سيبين دوركايم دور الطقوس في تقوية الإحساس بالانتماء لجماعة ولمعايير جماعية تقي الفرد من الانزلاق في الفوضى واللانظام .

تتحدث مارتن سيكالين (Martine Segalen) عن استمرار بعض الطقوس رغم اختفاء أسباب وسياق ظهورها، بطريقة أخرى، تتحدث عن مقاومة الطقوس للتحول، وتسرد هنا احتفاظ  المسيحيين، إلى غاية نهاية القرن التاسع عشر، بطرق احتفال كانت  سائدة في   المجتمعات الرعوية والفلاحية  لليهود القدامى رغم اختفاء النشاط الرعوي.

من هنا  ستذكر مجموعة من الخصائص التي تميز الطقس في حد ذاته وهي :مرونته، قابليته ليأخذ معان كثيرة،  قابليته للتأقلم مع التغيرات الاجتماعية، لهذه الأسباب  يجد تعريف الطقس في الوقت الراهن  صعوبة كبيرة، ذلك أن معظم السلوكات التي كانت ترافق الطقس في المجتمعات البدائية أصبحت  منفصلة وأزيحت عنها القداسة، ونذكر منها: الرقص، اللعب، التعبير عن الانفعال والتعبيرات الجسدية بمختلف أشكالها.

هكذا، سوف يدخل الطقس إلى سجلات مختلفة ومتداخلة :اقتصادية، اجتماعية و سياسية، تدعونا معها  سيكالين إلى توخي الحذر الإبستمولوجي حتى لا ننزاح إلى تعريف للطقس دون ترشيح (بالمعنى الكيميائي) لمختلف الأفعال الاجتماعية التي تنضوي تحت طائلة الطقوس .

العادات الغذائية كطقوس: التضامن والاقتيات على الكلمات

سوف تقوم سيكالين بتقديم تعريف خاص  للطقس  لجعله يتماشى مع العصر الراهن، وينفتح بالتالي على مجموعة من السجلات كالعادات الغذائية، من هنا يصير الطقس مجموعة من  الأفعال المحسوبة والمعبرة، تحمل بعدا رمزيا وتتميز بتمظهرات زمنية ومجالية خاصة، كما تستعمل إشارات تعتبر شعارا للجماعة المنتمى إليها.

بهذا المعنى، تصبح الطقوس مجموعة من التصرفات الفردية أو الجماعية يمكن حل شفرتها نسبيا، لها تمظهر جسدي يتمثل أيضا في  اللغة و الوضع، كما تجد مرجعيتها في قيم مرتبطة باختيارات جماعية، تعتبر فعالة ومفيدة بشكل قد لا يكون منطقيا أو ملموسا.

إن دخول الطقس إلى المجال الغذائي سوف يضفي عليه صبغة خاصة، تتجاوز حدود التعبير عن التضامن إلى الكشف عن دلالات متجذرة في الاجتماعي.

بالنسبة لبعد التضامن في الطقس الغذائي، تلعب الطقوس الغذائية الممارسة في الجنازة مثلا دورا هاما في إظهار الروابط وتجديد التضامن بين المجموعة الواسعة (القرية) أو الضيقة (الأقارب).

 وتتأكد الخاصية الرمزية لهذه الطقوس بما يمكن تحريمه أو تقديمه من أغذية، ذلك أن الغذاء هنا يمثل، إلى جانب الطقوس الأخرى المرافقة للجنازة، رمزا ذا وظيفة اجتماعية ونفسية. كما تختلف الأغذية المحرمة في مثل هذه المناسبات من مجتمع لآخر (تحريم تناول اللحوم الحمراء في بعض الدول الأوروبية)، بشكل تبدو فيه وكأنها نوع من (الحداد الغذائي) الذي يسير جنبا إلى جنب مع الحداد على مستوى (اللباس، الخطاب…).

تتجلى أهمية الطقوس الغذائية أيضا في سلطتها الاجتماعية، ونورد مثالا لذلك بما حصل  بعد حرب الهند الصينية، إذ  تفاجأ الفرنسيون بكون الجنرال دي كاستريز يطلب بطاطس مقلية  لتكون أول وجبة يتناولها، ولم يكن تصرفه هذا اعتباطيا، بل كان هذا التصرف الطقوسي تأكيدا منه على الارتباط بالعرق الفرنسي، نظرا لكون البطاطس المقلية تعتبرا دليلا على فرنسية الفرنسيين .

وهنا نورد مثلا من المغرب، حيث نلاحظ أن بعض المنتخبين رغم عدم انتمائهم إلى المنطقة التي يترشحون بها، فهم قد يحرصون على تناول الأطباق المحلية مع أعيان الساكنة لكسب ود السكان.

سوف يبين البعد الطقوسي للفعل الغذائي العلاقة الفريدة التي ينسجها الفرد مع الغذاء، إذ يظهر البعد الرمزي للغذاء، متخذا مضامين ثقافية واجتماعية عديدة، في تجذر العادات الغذائية كوسيلة للتعبير والتواصل، مشكلة محركا لا مثيل له للاختيارات الغذائية.

في ذات الإطار، يرى جرار حداد (Gérard Haddad) أن الإنسان لا يحتفظ فقط بعلاقة تحكمها الحاجة مع الغذاء، بل إن اسم الغذاء ذاته ودلالاته الرمزية تلعب دورها كذلك،  وهنا يتحدث جرار حداد عما أسماه بالاقتيات على الكلمات، ويقصد تلك العبارات الطقوسية التي ترافق تناول الطعام كما هو الحال عند اليهود في عيد رأس السنة “كيبور”، وهي العبارات التي بإمكانها تحويل  الأغذية ذاتها إلى أغذية مقدسة.

 كما نؤكد على تأثير الأفعال والكلمات التي ترافق طقس المائدة، ففي دراستها النقدية حول طقس المائدة والإثارة العاطفية في رواية “يوم جميل لهنري جيار، تحدثنا جويل بيونير(Joelle Pionnier) عن العلاقة بين طقس المائدة والإغراء العاطفي. 

تشير  هذه الباحثة إلى دور الإطراء على طبخ المرأة في إثارتها عاطفيا، حيث تعرض لمشهد المائدة بمكوناتها الغذائية والكلام الدائر حولها، محاولة البحث عن المكونات المساهمة في فشل نشوء علاقة عاطفية بين بطلي الرواية :هل هي الأغذية المتناولة، الحوار الدائر،  أم الإطار الذي تم فيه اللقاء، أم أن الأمر يتعلق بطبيعة الشخصين ذاتهما.

إن سبر البعد الطقوسي للعادات الغذائية سوف يلقي الضوء من جديد على تعقد الفعل الغذائي  وأهمية المعتقدات  المنسوجة حول الغذاء، وهي المعتقدات التي تقف جنبا إلى جنب مع المعتقدات الدينية. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *