من العمق

محاولة لفهم سلوك النخبة السياسية بالمغرب

إن المتتبع للشأن المغربي لا يحتاج إلى تأمل كبير ومجهود كثير، لاكتشاف منطق التناقضات الصارخة بين أقوال “نخبته” السياسية وأفعالها، بين ما تروج له وتنادي به، وبين ما تسعى الى اتباعه وتطبيقه على الواقع. وفي محاولة للتفسير والفهم والاستيعاب، يمكن أن نعزي هذا التمفصل وهذه المفارقات الى عدة أسباب . ”

سبب أول: متعلق باستيراد نظريات جاهزة ومحاولة إسقاطها على الواقع مهما أثبت هذا الأخير من تناقض معها أو تجاوزلها أو عدم جدوائيتها وملاءمتها له، لعدم مراعاة اعتبارات عدة من بينها الخصوصية الثقافية واللغوية …وكذا اختلاف طبيعة الاسئلة والإشكالات والتحديات وميزان الاولويات من مجتمع لآخر. الشيء الذي يجعل صاحب النظرية يبقى حبيس إطارها التصوري ومسلماتها ومفاهيمها. هذا إن بقي لديهم بالفعل شيء يمكن أن نطلق عليه اسم نظرية. وفي هذا السياق يقول د.عبد الله الحمودي في كتاب. مصير المجتمع المغربي “فهناك أناس يمارسون العمل السياسي في غنى عن البعد المعرفي, ومن ثم تتحول ممارساتهم إلى عملية إسقاط خلاصات (…) على واقع مجتمعاتهم والتي ليست أسئلتها ومشاكلها هي نفسها في مجتمعات أخرى”ص11 .

وسبب ثاني مرده إلى السعي الحثيث لنمدجة تجربة شخصية معينة، واعتبارها المرجع الوحيد والخلفية التي يفسر من خلالها كل ما يطرأ على المجتمع من تغيرات أو تحولات ومحاولة جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وإذا كانت عملية “النمذجة” من بين أسباب عجز وقصور الدراسات الكولونيالية في المغرب، فأنى لتجربة شخصية وضيقة ذات بعد واحد في النظر، أن تشكل خلفية أو آلية لتفسير وفهم ما يحدث من حراك داخل مجتمع، قال عنه بول باسكون بأنه “مجتمع مركب ومعقد” منذ سنة1956.

وسبب ثالث: نرجعه لتحكم العقلية التقليدية غير العقلانية والتي تشدنا الى وجود نعرات قبلية وإثنية وعاطفية بعيدة كل البعد عن العمق الذي من أجله أنشئت هذه المؤسسات (حكومة، أحزاب، نقابات، …) بما تعنيه من سيادة منطق عقلاني مبني على تحكم فلسفة التعاقد والالتزام والمساواة والحرية والديموقراطية، بدل القبلية أو العاطفية أو اللغوية.. وهذا نجد تجلياته واضحة في الواقع سواء كان بقصد أو بغير قصد من خلال نفاق سياسي واجتماعي وتناقض بَيّن بَيْنَ التمثلاث الذهنية والممارسات الميدانية لهذه (النخبة السياسية). ولعل من تجليات هذا التمفصل وجود بنيات ومؤسسات سياسية واجتماعية وحقوقية… تبدو حديثة من ناحية الشكل، بل حتى على مستوى الإجراءات القانونية لإحداثها وكذا بعض الآليات التنظيمية…إلا أنه من ناحية المضمون وفي العمق نجد سلوكيات وممارسات تجذبنا إلى كل أشكال الزبونية والقبلية والعرقية…وهنا نستحضر دراستين في هذا المجال:

أولى متعلقة بالدراسة التي أجراها “جون وتر بوري” على النخبة السياسية بالمغرب حيث عمد إلى توظيف مفهوم “الهوية الظرفية” لدى رجل السياسية المغربي بحيث تصبح الظروف والأوضاع محددة لطبيعة فعل وسلوك هذا الأخير، إلى درجة يصعب معها تحديد العدو من الصديق، بحيث أن عدو الأمس قد يصبح صديق اليوم أو العكس، كما يسجل غياب مبادرات جريئة يمكن أن تحدث خللا أو تغير كبيرا، بحيث هناك اتفاق ضمني على تجاوز التوتر والحفاظ على الوضع القائم معزيا ذلك إلى تحكم منطق المصالح في التحالفات.وهذا التحليل يسوقنا إلى سبب رابع كان “ميكيافيلي” في كتابه الأمير قد وضع معالمه ومحدداته والمتعلق بسيادة مبدأ – الغاية تبرر الوسيلة – وحضور نفعية مصلحية لديها كامل الاستعداد القبلي لفعل أي شيء والتضحية بأي مبدأ لصالح المبدأ الكبير والذي هو المصلحة الخاصة، والذي طبعا لا يضحى به لصالح أي اعتبار آخر لأنه هو المرجح. ولتحصيل كل هذا يصبح الفساد شعارا، والفن الرديء، والإعلام ذو المضمون الهابط آلية ووسيلة، والحفاظ على الإمتيازات الخاصة مطمحا وهدفا.

و لعله من بين أكبر تجليات هذه الأزمة هو فقدان هذه النخبة وقبلها الدولة القدرة على الاعتراف والاعتذار، لأن كشف الجرح وهي جراح وتعريته بكل جرأة . والتفكير الجماعي في التضميد والعلاج أفضل من تغطية الجرح وتجاهله أو التستر عليه بكل الوسائل، إلى درجة يتطلب الأمر معها بتر العضو، وآنذاك نضطر إلى التدبير بدل التخطيط وإلى المعالجة بدل التفكير القبلي والاستراتيجي، و باختصار نقوم بدور رجال المطافئ والذين لا يتدخلون إلا بعد أن تضرم النار، وأعتقد أن هذا منهج خاطئ لا يمكن اعتماده تحت أي مبرر من المبررات و التي يكون معظمها واهيا ولا صوابية له.

ولعل الأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا، ونأخذ نموذجا لذلك تعامل بعض الأحزاب مع أعضائها، حيال تورطهم في قضايا اختلاس أموال أو شراء ذمم… فعوض الجزر والإقالة والتأديب نجد كل أشكال الاحتضان والتشبث بدعوى عدم هدر رصيد نضالي أو رأسمال اجتماعي أو اقتصادي معين؟ و أية رساميل أو رصيد نضالي يمكن أن يكون لغشاش أو لص أو فاسد لازال مستمرا في فساده.
وعبر هذا المسار تتعرض أي إيديولوجيا كيف ما كانت إلى التآكل ثم التلاشي والاندثار إلى درجة فقدان الإديولوجيا ومنه فقدان مسوغ الوجود، وهذا ما نعتقد أنه أصاب الكثير من هذه (النخبة السياسية) وفي هذه الحالة يبقى الانسحاب من الحياة السياسية أقل شيء يمكن فعله لحفظ ما تبقى من ماء الوجه، هذا إذا كان هناك وجه أصلا؟

و في محاولة للفهم أكثر من الداخل نستحضر النموذج التفسيري الذي اعتمده الدكتور عبد الله الحمودي وأكد على حضوره وتطابقه مع كل البنيات الاجتماعية سواء كانت سياسية أو مدنية أو حقوقية …بحيث نجد سيادة قطبي الشيخ والمريد، أول علوي يمتلك كل أليات القهر و الإخضاع و ثاني سفلي لديه قابلية لكل أشكال الشحن والتنميط والقولبة والخضوع، وبهذا النموذج يفسر الحمودي العلاقات القائمة بين (أب/ابن، حاكم/محكوم، رئيس/مرؤوس، شيخ/مريد…).

إلا أنه نعتقد أن هذا التمفصل ليس مرتبط بطبيعة هذه المؤسسات ولا بأشكالها ولا أنواعها، بقدرما ما أنه “تمفصل ثقافي” ناتج بالضرورة عن “تمفصل عقلي” يتولد ويعاد إنتاجه باستمرار عبر آليات توريث الثقافة والتي من أهمها التنشئة الاجتماعية.

وتكثيفا لكل هذا يمكن إجمال اكبر سبب لاستمرار هذا الوضع وتفاقمه في هيمنة المعرفة الاجتماعية ولغياب أو التغييب الممنهج للمعرفة العلمية، بحيث أن الأولى بماهي مجموع المعتقدات والأعراف والتقاليد …إلا أنها ليست بالضرورة علمية، ولكن الفاعل العقلاني بمجرد معرفته للمعرفة العلمية يسارع إلى التخلص من كل ماهو غير علمي، نموذج الطفل الذي يعتقد أن بنزوله للنهر فإن ظله ينزل معه ويتبلل هو أيضا بالماء، لكن بمجرد ما يستوعب أن مسألة الظل علميا هي متعلقة بانعكاس الضوء على شيء معين ليعطي مثله يسارع إلى نفض هذه المعرفة المبنية على تمثلات خاطئة و تجاوزها.

إلا أنه مع هذه “النخب السياسية” وفي جل البنيات الاجتماعية والثقافية وكذا لدى العقلية التقليدية للمجتمع المغربي، بحيث يسجل نوع من النفور من كل ماهو علمي وعقلي والحنين الى كل ما هو موروث وموجود لا يتطلب قدرا كبيرا من التفكير والجهد للاستيعاب بل يكتفي باستهلاكه جريا وراء المعرفة الجاهزة سواء كانت علمية أم غير ذلك.

ومنه يتم طمس كل ما هو علمي لصالح كل ما هو إديولوجي نفعي وبراكماتي، وحينما تغيب المعرفة العلمية لصالح الإديولوجيا والقوالب النظرية الجاهزة، دون الانطلاق من الواقع في اتجاه النظرية، وإن كانت طبيعة العلاقة الرابطة هي ضرورية وتكاملية لا علاقة التنافر والإلغاء.

وبالتالي فكل ما نلحظه من تعارض بين الفكر والممارسة، مرده بشكل أو بآخر إلى كل هذه الأسباب الستة الأساسية.

وإننا هنا لا نبتغي قفل هذا الباب من البحث بحيث تبقى هذه محاولاة أولية للفهم، ولابد من التعمق في تفكيك وتحليل بنياتنا الثقافية الإجتماعية لكونها ما تزال تزخر بالكثير من الحقائق والمعطيات وهي وحدها الكفيلة بتقديم إجابة على كل الاشكلات المحلية وإننا هنا إذ ندعو إلى العودة إلى الذات، فإننا لا نقصد الانغلاق عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *