من العمق

بين العقلية الاستبدادية والعقلية الديموقراطية

كثيرا ما نسمع ونتداول في أدبيات السياسة العربية عبارة الرئيس الراحل أكثر مما نسمع ونتناقل عبارة الرئيس السابق، فبين العبارة الأولى والثانية والثقافة المتحكمة والآليات المفرزة لكل منهما ما بين السماء والأرض من اختلاف، وطبعا هذا الاختلاف لا يمكن أن نعزيه كغيره إلى اختلاف في المناخ أو الجغرافيا أو البعد اللغوي…، فعبارة الرئيس الراحل تختزن كل المعاني والدلالات التي يمكن للعقلية الاستبدادية والعاطفية أن تتضمنها بما تعنيه من انفراد بالرأي ومركزة القرار وما يتبعه من إقصاء للرأي الآخر والتضييق عليه بل ومحاربته بوسائل غاية في الخبث والمكر أحيانا، وكذلك ما تعنيه من استحواذ على الثروة والسلطة عبر غياب التوزيع العادل للأولى وعدم التداول على الثانية، وتجميع كل السلط بإبعاد منطق التفويض والتداول أو الإشراك والتشاور، ومع هاته المعاني فنحن نعيش “الديكتاتورية” بكل تجلياتها، أما الديمقراطية فبريئة من هذه العقلية براءة الذئب من دم يوسف، ومع هاته العقلية فبمجرد وفاة الرئيس بعد تدخل “عزرائيل” لانعدام آلية أخرى لإزاحته، اللهم في إطارات ودوائر ضيقة جدا عبر ما يسمى “بأمين السر” أو الوريث الشرعي… الذي يرث كل شيء داخل فضاءات عائلية وقرابية محدودة ومتحكم فيها سياسيا وحتى وبيولوجيا أحيانا، كما أن الاستقالة أو الإقالة مستبعدة جدا والتاريخ شاهد وموقع وباصم على هذا في دولنا العربية بالخصوص، سواء تعلق الأمر برئيس دولة أو حكومة أو حزب أو نقابة… وبالتالي فبعد الوفاة مباشرة يقع الخلل والارتباك وعلى الرئيس الجديد/القديم البداية من الصفر، وهذا بالطبع لا يخدم مصلحة تلك المؤسسة ولا ذلك الشعب والقاعدة الخلدونية واضحة في هذا الشأن”.

أما العقلية الديمقراطية، وسيادة منطق الرئيس السابق فهي تناقض تماما كل معاني ودلالات العقلية العاطفية والاستبدادية، بحيث نجد سيادة روح التعاقد والالتزام والاشتغال بروح الفريق، كما نجد كل معاني الإشراك والتشاور والتفويض والتعدد والاختلاف واللاتمركز … كما نجد التداول على السلط وسيادة القانون الذي يضعه الشعب، وبناء إداري ومؤسساتي واضح وغير معقد، وبعد كل هذا فإن النتيجة بعد وفاة الرئيس السابق وقدوم الرئيس الجديد تكون هي استمرار الخطط والبرامج ومنه يتم العمل على تطويره.

إن الديمقراطية ليست مجرد شعار بل هي ثقافة وسلوك ومؤشر على استبدادية الدولة من عدمه، في زمن أصبح التشدق بالمفاهيم والشعارات أكثر من ممارستها وتجسيدها في الواقع، وإن كان بعض الباحثين الاجتماعيين قد خلصوا إلى أن الإكثار من ترديد مفهوم أو شعار معين من طرف الدولة ما هو في الحقيقة إلا دلالة قوية على الافتقاد التام له، وذاك حال الديمقراطية عندنا وشعارات أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *