وجهة نظر

هل يحتاج الاتجاه “التكميمي” في السلطة إلى قانون “كمامة الفيسبوك”؟

“أَنَا مَاشِي وَاعْرْ، أنا أعبِّر عن آرائي، أعبّر عن قناعاتي وما يُمليه عليّ ضميري، في إطار القانون والاحترام التام للمؤسسات.. أنا لا أتحدى السلطة.. أعرف بأنها قوية، وبأنها تستطيع أن تفعل بي ما تشاء.. لكن سأعبّر..”. ربما الكثير من المواطنين، ممن كانوا يتابعون الشأن العام، خصوصا فيما بين 2014 و 2017، يعرفون صاحب هذا الكلام؟ إنه للصحفي حميد المهدوي الذي تقترب المدة الحبسية التي حُوكم بها من الانتهاء.

في الـ20 من يوليوز من سنة 2017 اعتُقل المهدوي، وتُوبع بتهمة عُرفت لدى الرأي العام بـ”الصياح في الشارع العام”، وحوكم على إثرها، قبل يُتابع بتهمة أخرى طبقاً لمقتضيات المادة 209 من مجموعة القانون الجنائي، وحُوكم بثلاث سنوات حبساً نافذاً وغرامة مالية قدرها 3000 درهم.

والملف الذي كان ولازال يُسائل الذين اعتقلوه، سجَّل في سجِّل المملكة الحقوقي عدة ملاحظات؛ الأولى هي أن المهدوي، وكما يعرف الجميع، صحفي وليس اسكافياً أو خضاراً.. ومن صميم عمله أن يتلقى المكالمات الهاتفية، وجزء كبير منه(العمل) ينبني عليها، مما يعني أن المكالمة المجهولة في نظر الصحفي مادة صحفية وليست جريمة، ونشرها من عدمه يخضع لتقديراته..إذن لماذا اعتقل؟

والملاحظة الثانية هي أن مضامين المكالمات، وحسب ما نشرته زوجته، بشرى الخونشافي، متناقضة ومتضاربة فيما بينها إلى الحد الذي يجعل السامع إليها، يُشكك في السلامة العقلية لصاحبها، ثم إنها في متناول السلطات، وقد استمعت لها فعلا..إذن لماذا اعتقل؟

الملاحظة الثالثة هي أن صاحب المكالمة المجهول يقول إنه اشترى الدبابة من روسيا، وأنه سيُدخلها إلى المغرب، وطبعا فكرتا الشراء والإدخال مثيرتان للسخرية، فهل روسيا تبيع دبابة واحدة للفرد؟ ثم كيف يمكن إدخال الدبابة إلى المغرب إذا لم تكن بحجم “الذُّبابة”؟ فالفكرتان لا يقبلهما العقل..إذن لماذا اعتقل؟

الملاحظة الرابعة، والأخيرة، والأكثر بروزاً، هي أن المادة 209 من مجموعة القانون الجنائي، التي بسببها يقبع الصحفي المهدوي خلف القضبان، تتحدث عن العلم بـ”الخطط” أو “الأفعال” التي تهدف إلى ارتكاب أعمال معاقب عليها بعقوبة جنائية، ولا تتحدث عن تلقي مكالمة مجهولة، مضامينها عبيطة ومثيرة للسخرية والغثيان في الآن ذاته. مكالمة في متناول السلطات. مكالمة كانت ستكون مادة صحفية لو توفرت فيها الشروط (من تلقاها صحفي!)..إذن لماذا اعتقل؟

ليس المهدوي فقط

إن بوصلة الاعتقال لم تتجه للصحفي المهدوي وحده، بل إنها اتجهت، قبله، إلى عدد من النشطاء الذين عبّروا عن رأيهم، واحتجوا بطريقةٍ عنونوها بـ”السلمية والحضارية”، سيظل التاريخ يذكرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!

فبعد مقتل “محسن فكري” في الـ28 أكتوبر 2016، خرج المواطنون بالريف(شمال البلاد) للاحتجاج والتعبير عن رفضهم للوضع، والمطالبة بتغييره، عبر إنشاء الوحدات الإنتاجية والطرق والمؤسسات التعليمية والصحية، فكيف كان الرد عليهم؟

طبعاً إنكم تعرفون الإجابة، لهذا سنطرح سؤلاً آخر، هو: هل كانوا هؤلاء يجهلون احتمال اعتقالهم ووضعهم في السجون؟ أو أكثر من ذلك؟ الجواب يأتي سريعاً، هو: لا.

بلا أدنى شك، أن النُّشطاء وضعوا كل الاحتمالات نصب أعينهم وانطلقوا متمنيين الخير واحترام وطنيتهم وإنسانيتهم قبل كل شيء، وبناء دولة تحتضن الجميع. ربما، هم أيضاً، كانوا يقولون في قرارة أنفسهم: “حْنا مَاشِي وَاعْرِين.. وعَارفِينْ أنّ السُّلطة، تْقْدْر دِيرْ أي حَاجة، لكن سنُعبّر ونحتج..فالوضع لا بد أن يتغير”.

ونفس الأمر مع مختلف النشطاء في الحراكات الاجتماعية، والصحفيين والمدونين في مواقع التواصل الاجتماعي، وكل الذين يعبرون عن رأيهم بمختلف الطرق، كلهم يعرفون أن هناك احتمال اعتقالهم. كلهم يعرفون أن ذلك سهلٌ جداً، خصوصاً بعد قصة “دبابة” المهدوي!

مشروع قانون 22.20

الآن، ومع أزمة “كورونا”، انخرط فاعلون سياسيون وحقوقيون ومثقفون وفنانون وعموم المواطنون في اطلاق العرائض التي تُطالب باطلاق سراح المعتقلين السياسيين والصحفيين.. وبدل الاستجابة لهم، خصوصا أن الظروف مواتية، نظراً للثقة التي بدأت تسترجعها المؤسسات على خلفية الإجراءات التي اتُّخذت لمواجهة الفيروس، خرجت الحكومة بمشروع قانون، أقل ما يُقال عنه أنه مضحك، بحسب بعض مقتضياته المسربة، والتي تُوصف بـ”الغريبة”، وتسمى سخرية بـ”كمامة الفيسبوك”.

لكن، هل يحتاج الذين اعتقلوا المهدوي وبقية النشطاء، إلى قانون “كمامة الفيسبوك” لاعتقال “الفسابكة” وعموم النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي؟ الإجابة لكم.

ومهما كانت الإجابة، لا بد من الوقوف في وجه هذا المشروع المضحك بكل الأساليب الممكنة، للحد فقط من النصوص التي تريد تكميم الأفواه، والتي تتعارض مع حرية الإنسان الطبيعية أولاً، وثانياً مع المقتضيات الدستورية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. للحد “فقط منها”، ودفع الذين يكييفون النصوص الجنائية الموجودة حالياً إلى المزيد من الاجتهاد في التكميم!

إن ما يجب أن يدركه الذين يضعون مثل تلك النصوص، والذين يرسلون الناس إلى خلف القضبان، هو أنه من المستحيل منع الناس من حرية التعبير، فمهما بلغ التضييق، لا بد من خروج الأحرار، بطريقةٍ قد تشبه التي خرج بها “وينستون وصديقته”، في أحداث رواية 1984 لجورج أورويل!

إن الذين يعيشون في هوامش هذا الواطن، والذين تنطبق عليهم عبارة “منبت الأحرار” الواردة في النشيد الوطني، وينظرون إلى حجم الفوارق المجالية والاجتماعية، سيظلون يقولون بتعابير مختلفة، مايلي: “رَاهْ لاَ يُعْقَل المَسْؤُولِينْ اعِيشُوا مفْطْحِينْ، والمُوَاطِنينْ كَايْحَاولُو اعِيشُو وهُم مَنْسيِّين(محاولة عيش لمحمد زفزاف).. لاَ يُعقل.. صَحيح السُّلطة قوية، لكن #مَاسَاكْتِينْشْ.. حِيتْ الدنيا مَادَايْمَش!”.

وفي ضوء كل ما تقّدم، نستحضر ما قاله “باروخ اسبنوزا”، فيلسوف هولندي، عاش في القرن الـ17، وهو تلميذ غير مباشر للفيلسوف المغربي “ابن رشد”، حيث قال: “إننا نسلم بأن السلطة تستطيع شرعا الحكم بأعنف الطرق واصدار أحكام الإعدام على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكل مجموعون على أن هذا الأسلوب في الحكم يعارض العقل السليم بل إنه يعرّض الدولة للخطر”، ويضيف موضحاً: “إن أية محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة وبل متعارضة على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب”(رسالة في اللاهوت والسياسة، ص436).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *