الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية” 10: دور التغذية في التعبير عن الهوية والانتماء

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 10

دور التغذية في التعبير عن الهوية

تعد العادات الاستهلاكية سواء في مجال اللباس أو الأكل وسائل دالة للتعبير عن مجموعة اجتماعية أو إثنية، لذلك يعتبر الغذاء وسيلة للتعبير عن الهوية بامتياز،  بشكل يشرح كيف يمكن للفرد مثلا، أن يحتفظ بوفاء للأغذية المتناولة في المنطقة التي ينتمي إليها.

بل حتى في بعض الدول الأوروبية حيث روافد الطبخ الحديث، نجد فئة عريضة من السكان من طبقات مختلفة، تحتفظ بمبادئ صارمة حول ما تعتبره “طبخا أصيلا”، حيث إمكانية الإقبال عليه سواء داخل العائلة، في المطاعم المتخصصة، بل حتى في مقاصف المقاولات. 

 العادات الغذائية والهوية

قد تظهر خاصية العادات الغذائية كوسيلة للتعبير عن الهوية في بعض المواقف المتشددة لدى بعض المؤرخين للمطبخ في أوربا على الخصوص، وذلك عندما يتعلق الأمر بدخول بعض الوصفات الغذائية الجديدة التي تهدد في نظرهم المطبخ التقليدي.

كما تحضرنا، بالنسبة لموضوع بحثنا المنصب على العادات الغذائية القروية، أسئلة نرمي إلى تطويرها والإجابة عنها في المراحل القادمة من البحث، نذكر منها:

– كيف تعمل خاصية الغذاء كوسيلة للتعبير عن الهوية على إرساء أو مقاومة التحولات الطارئة على العادات الغذائية؟ 

– كيف تكتسب بعض الوصفات الغذائية خاصية التعبير عن الهوية؟

– ما هي المستويات التي تظهر فيها هذه الخاصية (الطبخ، المائدة)؟ 

لقد اعترفت الأنثربولوجيا الثقافية بالأهمية الاجتماعية والثقافية للتغذية معتبرة أن الوجبات الغذائية وسيلة للتبادل والتواصل  والتعبير عن الانتماء، كما أنها تعبر عن التراتب والتضامن الاجتماعي في ذات الآن، من هنا تم إثارة بعض الأسئلة المرتبطة ببنية النظام الغذائي والمحركات الثقافية للاختيارات الغذائية.

تكاد تدخل العادات الغذائية في جل الظواهر الاجتماعية الاحتفالية، الاقتصادية وتلك المتعلقة بالنوع، بل إن التعصب للعادات الغذائية قد ولد معه الإعلان بأن الإنسان هو ما يأكل، لذلك تمكن العلاقة بين التغذية والسلوك من التعرف على طباع الأمم.

 هنا نتساءل مثلا عما يربط دهاء الفكر لدى الفرنسيين وعذوبة المطبخ الفرنسي، عن بلاهة البريطانيين وأطباقهم التي ليس لها طعم، عن طمأنينة الألمانيين وأطباقهم الدسمة، وعن تفنن الإيطاليين وكمية الخمر التي يشربونها !

إن عمل الأنثربولوجي في رصد العادات الغذائية سيمكنه من معرفة آليات اشتغال التنظيم الاجتماعي ومجموع العلاقات الاجتماعية التي تنسج حول مائدة الطعام، ذلك أن تاريخ الأمم والمواقف الفردية لا يمكن الإلمام بها دون الإطلاع على العادات الغذائية لهذه الشعوب.

إن الحفاظ على العلاقات الاجتماعية في كل الشعوب سواء كانت بسيطة أو معقدة يمر عبر تقاسم الغذاء، حتى أن لفظ رفيق في اللغة الفرنسية  (compagnon)، قد أتى من  الكلمة اللاتينية التي تعني الشخص الذي يتقاسمك الخبز،  كما أن الالتفاف حول ذات المائدة يرمز إلى المساواة والندية .

يستفيض بيتر فارب (Petter Farb ) في الحديث في هذا الموضوع مؤكدا أن الأغذية المتناولة  تعبر عن الوسط الاجتماعي، الديني والإثني، إذ يكفي النظر إلى مطبخ الأسرة لمعرفة أصولها الإثنية،  كما أن الطابوهات المتعلقة ببعض  الأغذية تدل على الانتماء إلى ديانة معينة( تحريم أكل الخنزير لدى اليهود  والمسلمين وأكل البقر لدى الهندوس). 

هذا فضلا عن كون تركيبة الوجبات تنم عن تمثل الشعوب للأغذية: إذ يتناول الماليزيون مثلا القهوة والحلوى على أنها وجبة الغذاء، في حين يعتبرها الأمريكيون والأوروبيون كوجبة إفطار، أما ساكنة أمريكا الشمالية فيتكون الإفطار لديهم من الفاكهة، الحبوب والحليب.  

من الضروري القول أن المجتمعات الحديثة تبذل جهودا حثيثة من أجل إيقاظ الذوق الغذائي القديم الذي يطبع المطبخ المحلي، فتفرد خصائص المطبخ المحلي يجعله من مقومات الهوية التي يجب ترسيخها أكثر من إقامة مطبخ وطني جديد:

ففي فرنسا مثلا، نجد معظم الوصفات الغذائية تعتمد على مواد تم جلبها من أمريكا في القرن السادس عشر والسابع عشر،  وهو أمر يشكل عاملا في اضطراب الشعور بالهوية في نظر بعض الباحثين.

إن أهمية العادات الغذائية كمعبر عن الهوية تبدو في استمرار استهلاك الوصفات الغذائية التي تعبر عن الانتماء، هذه الوصفات التي يتشبث بها المجتمع طويلا في تحد لجميع التغيرات التي يمكن أن تطرأ على مصدر الأغذية وطريقة التحضير، وهنا نذكر مثلا وصفة حساء الفول بالنسبة لساكنة جبالة ، هذه الوصفة التي تعبر عن المنطقة بامتياز وتعرف بتاريخ ضارب في القدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *