رمضانيات

الإشارات السياسية في قصة موسى .. الهجرة دعوة ربانية من أجل حياة جديدة

الحلقة 7

المنطلق، قوله تعالى: “ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل. ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما، قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل، قال ربي غني لما أنزلت إلي من خير فقير”.

لقد سبق أن أشرت إلى أنه كان من الأعذار التي قدمها التابعون للظلمة عذر الاستضعاف، فكان الرد القرآني عليهم “ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها” وفي معنى آخر :” ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة”. فالهجرة هذا المفهوم الحاضر في التداول والوجدان الإسلامي؛ هو واحد من الحلول المقترحة للنجاة بالنفس، والبحث عن حال مغاير في واقع مغاير؛ حين تضيق بالإنسان السبل في واقعه. فمحاولات التغير والصراع مع الواقع حل قد لا ينجح مع كثيرين؛ ولهذا عندما يهاجر الإنسان وتكون له نية ورجاء كما عبر عنه موسى بقوله ” عسى ربي أن يهديني سواء السبيل” فإن القدر يستجيب حين تكون الإرادة صادقة في التغير: “إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا”.

إن العوائق التي تقف في طريق الإنسان، وتحول بينه وبين الحياة الجديدة، والواقع الجديد؛ ليست بالضرورة في داخله، ولكنها أيضا في العوامل الخارجة عنه من المحيط والبيئة. وفي كثير من الأحيان قد يكون للإنسان النية الصادقة، ويجاهد نفسه أيما جهاد؛ ولكن ينهزم أو يقضي وقته مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ بفعل معيقات محيطه وتفاعله بالسلب والإيجاب . وربما كان خبث واقعه أكبر من إرادته وجَهده في إصلاح نفسه. ولهذا عندما يهاجر الإنسان ويحل في واقع جديد؛ فكأنما يولد من جديد، ولا تعود له مصلحة بالمطلق بما كان يجب على الناس أن يعرفوه أو يجهلوه عنه؛ بل ربما يتحول جهل الناس به وبماضيه إلى مصدر قوة ودفع بالنسبة له ولحياته الجديدة. وهذا ما جعل الإسلام يولي هذا المفهوم اهتماما بليغا.

ومما يدل على صعوبة التغير في مجتمع فاسد هو أن موسى عليه السلام؛ النبي المصلح، يقتل نفسا بغير قصد، ويعزم على التوبة ويصيبه الهم والغم من خطيئته، ولا يمر إلا يوم حتى كاد يقع في الخطيئة نفسها بسبب الواقع الفرعوني المشحون.

ومما يدل على وجاهة ونجاعة حل الهجرة في تغيير الإنسان؛ هو أن موسى عليه السلام بمجرد دخوله أرض مدين وخروجه من منطقة نفوذ آل فرعون؛ بدأت تظهر على حياته علامات الخير والبشر، وبدأ يجني ثمرات الهجرة والنجاة من مجتمع الظالمين، وعاد إلى طبيعته وصنعته الربانية لتحمل رسالة الإصلاح؛ بالسعي لخدمة المسحوقين والمنبوذين، وليس مظاهرة المجرمين وقتل الناس كما ادعى الإسرائيلي.

“ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهما امرأتين تذودان، قال ما خطبكما، قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير” . وهذه صورة أولى من صور الحيف الاجتماعي والدونية؛ وحيث لا مكان للمستضعفين في منطق الغلبة للأقوى. يسقي الأقوياء أولا وينصرفون، ثم يسقي الضعفاء على فضلهم. يثير هذا المشهد ما يثير من الاشمئزاز في نفس موسى، ويقبل عليهما بسجيته وطبيعته الخيرة ويسألهما عن سبب هذا الانعزال؛ يسألهما بصيغة الخطب “ما خطبكما” لأنه رأى أن حالهما خطب وأمر لا يستقيم. وهذه سمة شخصية موسى الفريدة؛ يتصرف على طبيعته من غير ما تصنع. بل هي سجية وديدن كل مصلح، فيسقي لهما دون كثير كلام، ولا طمعا في شيء، ويتولى إلى الظل بمروءة وعزة المصلح المتعفف. ويحكي أهل الأثر أن بطنه كادت تلتصق بظهره من الجوع، ومما كابد من الطريق فرارا من آل فرعون أن يدركون.

يسقي لهما ثم يتولى إلى الظل، شاكيا لله حاله، وسائلا إياه من فضله مفتقرا إليه، وهذه أولى علامات التغير، والصدق في الوعد، فقد قال موسى بعد ندمه:” رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين”. وعندما تشتد الأزمة ويُمتحن موسى فلا يفتقر إلا لخالقه، ولا يمد يد السؤال إلا لخالقه؛ يأتي الفرج من قريب مجيب. فيبدل الله موسى أهلا خيرا من أهله بطريق لم تكن لتخطر على قلب موسى قط، ولتبدأ قصة جديدة وحياة جديدة.” ففررت منكم لما خفتكم فوهبني ربي حكما وعلما وجعلني من المرسلين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *