وجهة نظر

النموذج التنموي بالمغرب بعد كرونا على ضوء التحولات الدولية والوطنية

مقدمة توصيفية

كل الأمم والتكتلات الاقتصادية والسياسية تسابق الزمن لوضع استراتيجيات تنموية وسياسات عامة لمواجهة أثار جائحة كرونا، هذه الاستراتيجيات والسياسات العامة تعتمد في منطلقاتها على مسلمات مفادها أن عالم ما بعد الجائحة ليس هو نفسه ما قبلها، ولعل ما يؤشر على ذلك، هو الانخفاض غير المسبوق لمؤشرات القيم بالأسواق المالية العالمية، والتدني الخطير في أسعار النفط الذي وصل إلى أدنى مستوياته منذ عشرات السنين، والتوقف عن الإنتاج لكبريات الشركات العالمية مما يتوقع معه فقدان 195 مليون عامل لمراكز شغلهم حسب تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية بحر أبريل من السنة الجارية.وارتفاع مهول في نسبة الدين الخارجي للحكومات الذي من المنتظر أن يصل إلى مستوى قياسي له في مبلغ 53 تريليون دولار بحلول نهاية العام الجاري حسب تقرير عن وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال صدر شهر فبراير الماضي، مما يجعل الدين العالمي يتجاوز إلى حدود الآن 255 تريليون دولار تبعا لتقرير رسمي حديث وارد عن معهد التمويل الدولي .

ترى ما هي الملامح الكبرى لعالم ما بعد كرونا على ضوء المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ وما هي تداعيات جائحة كرونا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب؟وأي مشروع تنموي ينشده المغاربة بعد كرونا يقطع مع اقتصاد الريع، ويحقق توزيعا عادلا للثروة، ويقلص من الفوارق الاجتماعية ويحقق إقلاعا اقتصاديا من شأنه أن يخفف من حدة تداعيات الأزمة القادمة؟

الملامح الكبرى لعالم ما بعد كرونا على ضوء المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية

لقد خلف انتشار وباء كورونا حالة واسعة من الرعب والهلع عبر العالم، وعبرت الكثير من الدول التي تعتبر نفسها متقدمة، عن صعوبات جمة تواجهها على مستوى مواكبة تداعيات ومخاطر هذا الانتشار، رغم إمكانياتها الاقتصادية والتقنية الهائلة، مما سيؤثر لا محالة بعد انتهاء هاته الجائحة العالمية في إحداث تغيرات كثيرة في النظام العالمي وفي ثقافات الأمم وحضاراتها وأولوياتها واصطفافاتها.

يقول “جاك أتالي” المنظر وعالم الاجتماع الفرنسي أنه كلما ضربت جائحة قارة ما،إلا وقامت بإثبات زيف المنظومات القائمة على المعتقدات والسيطرة لفشلها في الحيلولة دون موت أعداد لا تحصى من البشر،ومن ثمة ينتقم الناجون من أسيادهم متسببين في اختلال علاقتهم مع السلطة.. ويضيف قائلا “واليوم أيضا إن ثبت عجز السلطات القائمة في الغرب عن التحكم في المأساة التي أطلت برأسها،فإن كل منظومات الحكم،ومعها كل أسس السلطة الأيديولوجية ستكون موضع مراجعة جذرية،ومن ثمة سيقع استبدالها ما أن تنتهي الفترة الحرجة بنماذج جديدة معتمدة على نوع آخر من السلطة، قائمة على الثقة في نوع آخر من المنظومات القيمية .

إن جل الخبراء والمحللين في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد يؤكدون من خلال دراساتهم التحليلية وأبحاثهم الميدانية، أن عالم ما بعد كرونا ستحكمه حتما توجهات تفرض على أغلب الحكومات إيلاء الاهتمام لشؤونها الداخلية أكثر من الشؤون الخارجية، بسبب عمق الأزمات التي خلفتها جائحة كرونا على اقتصادياتها، وكذا تأثر الوضع الاجتماعي لشعوبها، الأمر الذي سيدفع هذه الأخيرة إلى ممارسة ضغوط كبرى على السلطات الحاكمة للتركيز على مشاكلها الداخلية، والتراجع عن السياسات الخارجية السابقة التي كانت تنهجها وتخصص لها إمكانات هائلة من ميزانياتها العامة،فاستنادا الى تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” الذي نشر سنة 2018 فقد وصل حجم الإنفاق العسكري العالمي سنة 2017 إلى مبلغ 1.7 تريليون دولار، ناهيك عن باقي أوجه الإنفاق الأخرى المرتبطة بالمساعدات الخارجية والعمل الإغاتي والخيري وكذا البرامج التنموية.

وحسب تقرير صادر عن مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية والذي تم استخلاصه من قبل دراسات لإثنى عشر خبيرا استراتيجيا في عالم السياسة والاجتماع والاقتصاد، فإن العالم بعد كرونا سوف يتجه نحو تعدد الأقطاب عوض أحادية القطبية التي كانت تتزعمها الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الصين الشعبية من المرشحين للتقاسم مع غيرها في قيادة العالم،كما سيعرف الاقتصاد العالمي انكماشا كبيرا مما يزيد من عدد الدول الفاشلة، الأمر الذي سيؤدي إلى تزايد في بؤر النزاعات بين الأمم بسبب انخفاض في النمو الاقتصادي و ندرة الموارد الضرورية للحياة، و الصراع على الزعامات،بموازاة إفلاس النظام الرأسمالي وعجز النظام الديمقراطي والاجتماعي عن التصدي لهاته الأزمة الطارئة، وكذا انهزام قيم الفردانية وانبعاث قيم التضامن الاجتماعي الإنساني.

غير أن الكلفة الاقتصادية للوباء على العالم النامي ستكون أقل انخفاضا مقارنة مع العالم المتقدم، هذه المتغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمى جديد أكثر عدلا؛ بحيث التفاوض فى هذه الحالة لن يكون بين منتصر ومهزوم، كما كان الأمر عند صياغة النظام العالمى الحالى، بل سيكون بين مهزوم ومهزوم جدا.

تداعيات المخططات التنموية السابقة وجائحة كرونا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي بالمغرب

عبر المغرب رسميا من خلال خطابات أعلى سلطة بالبلاد منذ سنة 2017 بأن جميع المشاريع التنموية فشلت ولم تحقق ما كان يصبوا إليه المغاربة من عيش كريم وقسمة عادلة للثروة وتنمية بشرية واعدة، وهذا ما أكدته جل التقارير الدولية في الموضوع، نذكر من أهمها التقرير السنوي الصادر عن الأمم المتحدة بخصوص التنمية البشرية العالمي لسنة 2019 حيث أشار إلى أن المغرب احتل المرتبة 121 من أصل 189 دولة شملتها الدراسة، بناء على قياس التقدم الذي حققته في الصحة والتعليم ومستوى الدخل، في وقت حققت فيه ليبيا مثلاً، التي تعيش أوضاعاً أمنية غير مستقرة منذ فترة، ترتيبا أحسن من المغرب بحلولها في المركز الـ110، ومقارنة مع بعض الدول القريبة من المغرب حلت الجزائر أفضل من المغرب في المرتبة الـ82 عالمياً، ثم تونس في المرتبة الـ91 عالمياً ومصر المرتبة 116 .

وحسب مؤشر الازدهار العالمي لسنة 2019 احتل المغرب المرتبة 100 عالميا من أصل 167 دولة شملتها الدراسة،ويصدر هذا المؤشر سنويا عن معهد “ليغاتوم” البريطاني، ويقيس جهود الدول لتعزيز رفاه مواطنيها من خلال إثنى عشرة عنصر و هي: السلامة والأمن، الحرية الشخصية، العمل الحكومي، الرأسمال الاجتماعي، بيئة الاستثمار، ظروف العمل، الوصول إلى الأسواق والبنية التحتية، جودة الاقتصاد، ظروف المعيشة، الصحة، التعليم والبيئة،وضمن المؤشرات الفرعية لمؤشر الازدهار العالمي، حقق المغرب تقدما في مجال السلامة والأمن بحلوله في المركز 57 عالمياً، لكن في مجال الحريات الفردية تذيل التصنيف الدولي في الرتبة 118،بينما حصل على مراكز سلبية في الرأسمال البشري بحلوله في المركز 163 عالميا.

وغير بعيد عن الخطابات الرسمية التي عبرت عن فشل المخططات التنموية للمغرب، أظهر وباء كرونا بشكل واضح وجلي ضعف المقومات الاقتصادية وهشاشة الوضع الاجتماعي للمغاربة سواء القطاعات الاجتماعية من قبيل الصحة والتعليم والشغل، أو القطاعات الاقتصادية التي تعيش أسوء وضع من شأنه أن يؤدي إلى صعوبات في إعادة استئناف أنشطتها ودوران حركة عجلاتها، هذه الصورة القاتمة كشفها التقرير الذي ألقاه وزير المالية محمد بنشعبون بتاريخ 27 أبريل 2020 أمام البرلمان المغربي،حيث خلص تقريره إلى أن وزارته خصصت ملياري درهم للأسر الهشة بالمغرب وعددها 4 ملايين و300 ألف أسرة منها 2 مليون و300 ألف أسرة تتوفر على بطاقة المساعدة ”راميد“ والباقي لا تتوفر عليها، علما أن هذا الدعم تراوح بين 800 درهم و 1200 درهم شهريا لكل أسرة هشة.

وتجدر الإشارة أن معدل أفراد الأسرة الواحدة هو خمسة أفراد تقريبا،فمعنى ذلك أن 21 مليون نسمة تقتات من الاقتصاد الهش وغير المهيكل، أي أن 65 في المائة من مجموع المغاربة ينتمون للفئة الهشة جدا ،بدون أجر دائم أو ثابت وبدون تغطية صحية أو تأمين أو تقاعد،وحسب ذات الوزير فإن هناك 800 ألف أجير مسجل لدى صندوق الضمان الاجتماعي توقفت مقاولاتهم عن العمل – 132 ألف مقاولة من أصل 216 ألف مقاولة – أي 61 في المائة من الأجراء أقعدتهم كرونا عن العمل وصرف لهم صندوق الضمان الاجتماعي تعويضا شهريا قدره 2000 درهم لكل أجير – حوالي 800 ألف أسرة – وبالتالي يصل عدد الأسر التي تنتمي للفئة الاجتماعية الضعيفة إلى 5 مليون و100 ألف أسرة بالمغرب مهزوزة اقتصاديا واجتماعيا بمعنى 77 في المائة من المغاربة هم في عتبة الفقر أو تحت عتبته.

إن سبب هاته الأرقام الصادمة راجع إلى تبني المغرب لعدة عقود نموذجا تنمويا مرتكزا على اقتصاد الريع،ولم يكن نموذجا مبنيا على إنتاج الثروة وتوزيعها بشكل منصف وعادل بين كل الفئات الاجتماعية وجل المجالات الترابية.

لقد صدم المغاربة قاطبة عندما أعلنت الدولة في أول خروج رسمي لها من قبل رئيس حكومتها بعد اكتشاف فايروس كورنا، بأن المغرب لا يتوفر إلا على 250 سرير للإنعاش رغم حصوله عن الاستقلال لمدة تقارب 70 سنة،نفس الصدمة تعرض لها المغاربة نتيجة الارتباك الملحوظ من قبل وزارة التعليم بخصوص تعاطيها مع التعليم عن بعد في غياب تام للإمكانات التقنية والبرامج البيداغوجية،ولعل ما يؤكد هاته الصورة المأساوية لقطاع الصحة التقرير الصادر عن المرصد الوطني لمنظومة التربية والتكوين سنة 2019 ،حيث جاء فيه أن عدد الأطباء لا يتجاوز 8500 طبيب،وأن أقل من 4000 منهم في القطاع العمومي وما تبقى في القطاع الخاص،وأن 8 أطباء تقريبا ل 10000 مواطن،أما المراكز الصحية فلا تتعدى 4 مراكز لكل 10000 مواطن،وأنه حسب ذات التقرير فإن عدد الصيادلة لا يتجاوز 9500 صيدلي، أغلبيتهم في القطاع الخاص بما يقارب 9000 صيدلي، والباقي في القطاع العام، وهو ما يشكل 3 صيادلة لكل 10000 مواطن،أما عدد أطباء اختصاص الطب الشرعي فلا يتجاوز عددهم 14 طبيبا وطنيا، 8 منهم في الدارالبيضاء والباقي يتوزعون على مدن أكادير والراشدية والجديدة ومراكش، وإذا عدنا إلى قطاع التعليم نجد مؤشرا خطيرا نلتقطه من خلال تقرير صادر عن الوزارة الوصية مفاده أن مجموع التلاميذ الذين غادروا المدرسة بالسلكين الابتدائي والثانوي الاعدادي خلال موسم 2017/2018 وصل إلى 221958 تلميذ وتلميذة،مما يجعل نسبة الهذر المدرسي في ارتفاع مطرد بسبب فشل منظومة التعليم وعدم نجاعتها.

المشروع التنموي الذي ينشده المغاربة بعد مرحلة كرونا 

بناء على ما تم بسطه من إكراهات وطنية ودولية، وبناء على الرصد الذي أظهر لنا مكامن الخلل الذي يعيق نجاح المخططات التنموي للبلد، وانطلاقا مما سبق الوصول إليه من خلاصات ومخرجات، فإن الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية لما بعد كرونا ينبغي أن تركز على تقوية الاقتصاد الوطني لتجعله قادرا على مواجهة التقلبات والأزمات الدولية،ووضع حد لظاهرة القطاع غير المهيكل لما له من أثار سلبية على هيكلة الاقتصاد المنظم،مع تحسين مناخ الاستثمار والأعمال عبر تشجيع الثقافة التنافسية التي تقطع مع الاحتكار والامتيازات والريع،وتضع آليات فعالة للشراكة بين القطاعين العام والخاص على أساس المنفعة العليا للوطن، مع إعطاء الأولوية للصناعات الإحلالية لاسيما في المجال الغذائي والطبي، والحرص على بناء منظومة معرفية ترتكز على بنيات تكنولوجية ورقمية تستجيب للمعايير الدولية لمواكبة التقدم الرقمي في المجال الإداري والاقتصادي.

ولإعادة الاعتبار للقطاعات الاجتماعية التي برز عورها خلال أزمة كرونا و التي تشكل رافعة لنجاح المشروع التنموي للبلد، ينبغي إعداد إستراتيجية اجتماعية تنهض بقطاعات الصحة والتعليم والشغل وتبني برنامجا جديا لمحاربة الأمية، وتوفر الأجواء المحفزة للبحث العلمي التي تشجع الطاقات الشابة الحاملة لبراءات الاختراع في المجال الطبي والصناعي والتجاري واحتضانها وفتح الأفاق أمامها حتى لا تهاجر هذه الأدمغة إلى الخارج، والكف عن تبذير الأموال العمومية في المهرجانات التافهة والإنفاق العبثي والمبالغ فيه على المصالح الحكومية ورؤسائها.

إن إنجاح المشروع التنموي الذي ينشده المغاربة لن يتحقق ما لم تتوفر إرادة سياسية حقيقية تقطع مع النزعة الفردانية وسياسات الماضي الفاشلة، وتفتح الباب لجميع طاقات الوطن للمساهمة في هذا الإقلاع التنموي بكل روح وطنية، تعتمد على توزيع عادل للثروة وتقلل من هامش الطبقية بين أبناء المجتمع،وتحفظ كرامتهم وأدميتهم،وتفسح المجال للحقوق والحريات لأنه لا نتصور تنمية بشرية لمجتمع في ظل قيود تكبل إرادته وتعيق حركته، وهذا ما يجعلنا نطرح علامة استفهام عن صدقية إرادة الدولة في نشدان مشروع تنموي واعد،أمام محاولاتها المتكررة لتمرير العديد من مشاريع قوانين تحد من حرية الرأي والتعبير على الرغم من مناقضتها للشرعة الدولية ومخالفتها للمشروعية الدستورية، والاستمرار في مسلسل الاعتقالات للصحفيين والمدونين ونشطاء الحراك الاجتماعي وعموم المواطنين على خلفية قانون الطوارئ الذي وصل عددهم حسب بلاغ لرئاسة النيابة العامة إلى 49 ألف و 274 شخصا .

* محمد النويني محام وباحث في القانون الدولي الإنساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *