الأسرة، مجتمع، منوعات

“العادات الغذائية” 16: التغذية والمرأة.. بين الواجب والنظرة الدونية

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 16

التغذية والمرأة: تقاطعات

بالنسبة لعلاقة المرأة بالتغذية، نلاحظ كيف تتقاطع وضعية المرأة مع فحوى وشكل العادات الغذائية في عدة مستويات:

يمكن التطرق إلى العادات الغذائية من خلال عمل المرأة القروية مثلا، فإذا كان تحضير الوجبات يدخل ضمن العمل المنزلي، فإننا لا نروم إلى القول بوجود هذا النوع من العمل كضرب مستقل منا الأنشطة.

 يمكن القول أن هناك عدة طرق لتقسيم عمل المرأة القروية، إلا أننا بصفة عامة نقول بأن  للمرأة القروية عملا خارج البيت وآخر داخله، كما يمكن أن يكون لها عمل مأجور وأخر بدون مقابل، مع الأخذ بعين الاعتبار التداخل الحاصل بين هذه الأنماط، مما يفضي إلى إمكانية رصد الأنشطة المتعلقة بالغذاء في عدة مستويات.

وعلى سبيل المثال، إذا كانت عملية الطبخ تدخل ضمن الأنشطة الداخلية، فإن تربية الدواجن تدخل ضمن الأعمال الفلاحية الداخلية، في حين تندرج أعمال الحقل والتزويد بالماء والحطب تحت صنف الأعمال الفلاحية الخارجية، لذلك سنرى كيف يقتضي التطرق إلى النظام الغذائي من خلال المرأة، لملمة فحوى أطراف هذا النظام داخل عمل المرأة القروية بشكل عام.

قد يقودنا ذلك أيضا إلى التفكير في أسس تقييم عمل المرأة القروية، فالمرأة القروية تنفق ميزانية كبيرة من الوقت، دون أن يحتسب ذلك كنشاط اقتصادي، فعندما نأخذ مثلا طبقا مهيئا في مطعم خارج البيت فهو نتيجة لنشاط اقتصادي، في حين لا يعد كذلك طبق هيئته المرأة في البيت .

إلا أننا سنجد في سياق آخر كيف تتأثر الاختيارات الغذائية القروية بوضعية المرأة، فإذا كانت القرارات المتعلقة بالميزانية الغذائية، كما قدمها أحد البحوث الإحصائية، تعود إلى الرجل بنسبة 74.1%، تتدخل المرأة القروية في سيرورة اتخاذ القرار فيما يخص اقتناء الأغذية، كما تلعب دورا أساسيا في عملية تحويل وحفظ الأغذية، إذ نجد كيف يتم في بعض القرى إسناد هذه المهمة إلى الأشخاص الأكثر حكمة في البيت (الجدة و الحماة).

   يمكن التساؤل  أيضا عن مدى وجود عادات غذائية خاصة بالمرأة، غير أن ذلك سيقودنا إلى الحديث عن المهارات العلاجية أو المعتقدات الشعبية التي قد تسمح وحدها بوجود عادات خاصة بالمرأة، ويرتبط ذلك بالأساس بالطبيعة الفيزيولوجية للمرأة، وهي ما يقتضي تناول أغذية مقابلة لدورة الحياة: أغذية خاصة بالنفساء، بالمرأة الحائض و البكر.

التغذية والمرأة: بين الواجب والنظرة الدونية

تشرح بعض الحالات كيف يمكن للمرأة أن تتعرض لسوء التغذية أكثر من الرجل، إذ تحتاج إلى عناصر غذائية أكثر أثناء فترة الرضاعة والحمل، ونلاحظ كيف تعرف هاتين الفترتين وفيات أكثر بين النساء. لقد أثبتت بعض الأبحاث كيف أن البنت مرشحة للإصابة بسوء التغذية أكثر من الذكر، ولا يعني ذلك أن الذكر غير معرض لذلك، بل إن الفرق يكمن في الاهتمام الذي يمكن أن يلقاه في مرحلة العلاج.

 في ذات الإطار، سوف يرصد جاك كودي) (Jacques Goodyعلاقة المرأة بالتغذية معتبرا إياها العلاقة التي كانت مصدر استعارة دائمة بين التغذية والجنس، بين الإنتاج وإعادة الإنتاج، هذه العلاقة التي لا تظهر فقط على مستوى  الأنشطة، بل أيضا على مستوى الطابوهات التي تحيط بها والتي تحصر وظيفة المرأة في الجماع والطبخ.

  غير أن هذه النظرة ليس سارية المفعول بشكل مطلق، فهناك العديد من المجتمعات الأوروبية والمتوسطية التي  تعرف وجود  طباخين رجال  يقومون بتحويل الوصفات النسائية إلى أطباق متداولة وراقية، كما أن ارتباط مهمة الطبخ بالمرأة لا يعد ضمن عمل السخرة المنزلي بل يدخل في صميم دور المرأة كزوجة.

 يشير بيتر فارب ( Petter Farb)   بدوره  إلى وجود علاقة وطيدة بين التغذية والنوع على مستوى الأدوار والتمثلات، فعادة  ما نجد الأنثى تخدم الذكر في هذا الشأن، كما أن هناك أغذية يتناولها الرجل دون المرأة أو العكس، فضلا عن وجود  العديد من المجتمعات العربية، الأوروبية والأسيوية التي تنتظر فيا المرأة انتهاء الرجل من الطعام حتى تليه في ذلك.

  لقد ربط تحضير وتقديم الطعام بأدوار المرأة المنزلية ، فبدا ذلك وكأنه من قبيل   

واجبات المرأة التي تؤكد الهيمنة الذكورية، و بيد أن شيوع استعمال الأغذية   المعلبة وارتياد المطاعم  قد يذكي هاجس اختفاء وإعادة تأسيس علاقة المرأة   بالتغذية.

يتبين أن المرأة تلعب دورا مهما في صياغة الظاهرة الغذائية على مجموعة من المستويات ، غير أن هذا الدور سوف يتعمق في العالم القروي نظرا لمساهمة المرأة في تشكيل النظام الغذائي عبر مجموعة من المراحل، تمتد من مرحلة الإنتاج الفلاحي إلى مرحلة الاستهلاك ، كلها مواضيع سيتم تناولها بتفصيل في القسم الميداني من هذا البحث.

لقد تبين لنا من خلال الفصول السابقة أيضا  مدى التعقد الذي يعتلي الظاهرة الغذائية من خلال تعدد المحددات التي تساهم في صياغة الفعل الغذائي، وبالتالي تعدد مداخل التحول بالنسبة للعادات الغذائية،  وإذا كنا نؤكد على وجود تراتب  لهذه المحددات التي تقف على رأسها المحددات الثقافية ، فإننا نؤكد أيضا أن تناول موضوع الغذاء يقتضي تبني مقاربة متعددة التخصصات.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *