وجهة نظر

بروز الاشتراكية وأفول الاشتراكيين في زمن الجائحة

جل دول العالم فجأة ظهرت بمظهر الدولة المتدخلة، واستعادت بدون سابق إنذار هيبتها وهيمنتها على أدق تفاصيل حياة مواطنيها، من ناحية اتخاذ كل ما يلزم لتجنب انهيار أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية والصحية.. في مشهد يوحي بإعمال فكرة وروح النظرة الاشتراكية.

إن اتخاذ القرارات والتدابير وإصدار التشريعات المستعجلة، ذات البعد الاجتماعي، والمالي، في مواجهة “كوفيد 19″، عطلت إلى حد ما فكرة حرية السوق، ومتطلبات التراكم الرأسمالي الذي حققته أغلب الدول وتبنته لعقود، مجمدة بذلك الأفكار والنظريات الراسخة التي يتبناها الفكر الليبرالي السائد، و المفضي إلى تكريس عولمة اقتصادية أعتقد الجميع أن لا تراجع عنها إلى الأبد، إعمالا لمقولة نهاية التاريخ.

في نفس السياق عاد التأثير للسياسات العمومية الاجتماعية، والإشادة بمؤسساتها في كل مكان، وملأت كل الهامش في زمن قياسي، فلا أحد يمكنه بعد اليوم، أن يشكك في جدوى وأهمية الصحة العمومية، والتعليم العمومي، والأمن العمومي، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، بل إن الجميع يكتب عملهم بمداد من الفخر والاعتزاز، ويعتبر ما يقومون به أداء بطوليا في مواجهة الأزمة.

لا صوت إذن يعلو على صوت الدولة في زمن الجائحة، فالكل أصبح اشتراكيا، روحا ومعنى، يكفي النظر إلى ما أنفق من مليارات الدولارات على البعد الاجتماعي، وعلى المنظومات الصحية عبر العالم، وبروز عنصر التضامن، وقيم التكافل، واقتسام مدخرات الدول مع مواطنيها، في مشهد لم يسبق له مثيل في العصر الحديث، فجل الحكومات تراجعت عما قررته في قوانين ميزانياتها وموازناتها لسنة 2020 إلغاء وتعديلا، من أجل تنفيذ سياسة “استثنائية” أقل ما يمكن وصفها به أنها سياسة اشتراكية بامتياز.

هل هذا تدبير مؤقت؟ أم أنه سيستمر في مواجهة تداعيات الأزمة؟ ومن ثمة يعود المشهد لما قبل “كورونا” تدبيرا وممارسة.

إن ما يتم اتخاذه من قرارات، سيخدم على الأرجح الحكومات القائمة عبر العالم، ويكسبها شعبية لم تكن تتوقعها في مرحلة ما قبل ظهور “الفيروس التاجي”، وبالتالي يتوقع عودتها وهي محملة بتأثير الأولويات الاجتماعية المنجزة إلى سدة التدبير الحكومي في المرحلة القادمة، خصوصا إذا تم القضاء على الجائحة في الأفق المنظور.

والعكس تماما، وهو احتمال وارد أيضا، إذا طال أمد تفشي الوباء، وجفت العطاءات التي يتوقع لها الحاكمين أمدا قصيرا، أو في حال إنهاك الميزانيات القومية، وانحسار الاقتصاد الدولي في تمويل ذاته بشكل جماعي ومشترك، فقد تنقلب المعادلة،  وتفقد الحكومات القائمة شعبيتها، بل أكثر من ذلك قد تتعرض لاحتجاجات شعبية، وقلاقل اجتماعية تهدد كياناتها.

إن الصراع اليوم هو إيديولوجي كذلك، يظهر ذلك في التدافع بين القوى الدولية المتزعمة للنظام الدولي، تدافع يتداخل فيه البعد الاقتصادي بالبعد الاجتماعي، كما يتداخل فيه التدبير العقلاني والموضوعي للأزمة، مع إكراهات السياسة والمتطلبات الإنتخابية.

أمام كل هذا، أين الاشتراكيين؟ وأين اليسار على المستوى الدولي من هذا التدافع؟ فلأزيد من خمسة عقود اهتم الاشتراكيون بكثير من المراجعات والملاءمات، لاستيعاب متغيرات المراحل التي شهدتها التفاعلات الدولية، سواء من حيث تغيير نظرتهم لمفهوم الدولة، أو لمفهوم العلاقات الدولية في مراحل مختلفة، وظهروا خلالها متفاعلين مع الأحداث والتوازنات الدولية المستجدة، خصوصا عند توليهم زمام الحكم عبر موجات سياسية مختلفة بدول أوروبا وغيرها من الدول.

إن الأسرة الاشتراكية على المستوى الدولي، ومؤسسات اليسار وتنظيماته ، وأحزابه، لم تبرهن أمام جائحة “كوفيد19” على أنها تمتلك تصورا للمرحلة، أو رؤية تمكنها من خلق توازنات جديدة في أنماط الفكر السياسي الراهن، خصوصا وأن الأحداث والوقائع تصب في فكرة هذا التوجه وتنهل من صلب نظرياته.

إن القول بغياب أو أفول الاشتراكيين، مرده إلى أننا لم نلاحظ ذلك الزخم المفترض من التنظير، وصناعة الأفكار حول ماخلفته أو ستخلفه هذه الجائحة، أو فتح نقاش فكري فيما يخص مواضيع تشكل اهتماما لليسار عبر العالم، مثل موضوع أولويات الدولة، وموضوع المديونية، وموضوع السياسات العمومية البديلة وغيرها.

ففي غياب تدافع فكري، تؤطره المؤسسات والأحزاب الاشتراكية، ومنظماتها الدولية بشكل جماعي، من خلال تحليل ودراسة الواقع وقراءته بشكل يؤدي إلى خلق التوازن مع المشاريع المجتمعية الأخرى.. يمكن القول أننا فعلا في زمن انبعثت فيه الإشتراكية بينما غاب فيه الاشتراكيون.

 

د. عبد الفتاح البلعمشي

أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة القاضي عياض بمراكش

رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • ساعة التحولات
    منذ 4 سنوات

    يظهر أنه فعلا قد حان الوقت لانبعاث جيل جديد لحزب الاتحاد الاشتراكي المغربي، فما يتغنى به كونه اسهاماته في بناء الديموقراطية وتنزيل للحقوق في المغرب، سوف يذهب ادراج الرياح بما وصل اليه، وفي غياب بديل حقيقي يمكن أن يحمل المشعل، ليس عيبا ان تجدد المؤسسة الحزبية، شأنها شأن أي مؤسسة تريد الإستمرار، ولنا في تجربة الأحزاب الفرنسية الرائدة خير مثال، les républicains ، les insoumis ، فقد جددوا الاسم والعلامة، والآليات الداخلية ، والرموز الممثلة لها، والأهم أن يتم التغيير في حياة الشخصيات والرموز والمؤسسين لإضفاء الشرعية وتمرر المسؤولية لجيل بديل، بنفس الأولين، وهذا الأمر يعني كافة الأحزاب الوطنية، التي بدأ جلها يحتضر، عاجزا عن مسايرة التحولات في الساحة العالمية، اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا طبعا، فلاباس من مراجعة الذات، والتطور والتأقلم مع المعطيات الجديدة مع الإبقاء على الموروث الذي خلق منه الحزب، حتى يلعب دورها الدستوري باستمرار وفي عتزاز بتاريخها، واستشراف لمستقبل أفضل