مجتمع

“العلماء والسياسة في المغرب” الحلقة 2: عبد الباري الزمزمي.. فقيه في البرلمان

هي سلسلة حلقات عن “العلماء والسياسة في المغرب الراهن”، تحاول الكشف عن طبيعة السلوك السياسي لعلماء دين سبق أن ذكرت تجربتهم في أطروحتي للدكتوراه في العلوم السياسية لـ”النخبة الدينية في النسق السياسي المغربي، العلماء نموذجا (2013-1999)” وقد ارتأيت نشرها بتصرف في موقع “العمق المغربي” لإبراز الفعل السياسي للعالم المغربي، والذي بموجبه يتحول الفاعل الديني إلى جزء من النخبة السياسية.

الحلقة الثانية : عبد الباري الزمزمي.. فقيه في البرلمان

وُلد الشيخ عبد الباري الزمزمي سنة 1943 بطنجة في كنف الأسرة الصديقية الغمارية المشهورة بالعلوم الشرعية وخدمة الحديث النبوي والتصوف، وتوفي رحمه الله سنة 2016. فوالده هو الشيخ محمد الزمزمي بن الصديق، الذي كان من أكابر خطباء وعلماء مدينة طنجة وجهة الشمال الغربي عامة، فاشتهر خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بمعارضته القوية للتوجه الصوفي للزاوية الصديقية التي أسسها أبوه الشيخ محمد بن الصديق وقادها من بعده إخوته الشيوخ عبد الله وعبد العزيز والحسن وإبراهيم آل بن الصديق، وقد سار عبد الباري الزمزمي على منوال أبيه في معارضته للزوايا الصوفية، لكن مع انفتاح أكبر على مستجدات فقه الواقع والمشاركة السياسية.

يحيل اسم الشيخ عبد الباري الزمزمي في النسق السياسي المغربي على شخصية فقهية مثيرة للجدل بمواقفها السياسية المحافظة الداعمة بشكل مطلق لتوجهات النظام السياسي، وبإصدارها لفتاوى شاذة سواء في المجال السياسي، أو في ما يتعلق بالحياة الخاصة والحميمية للأفراد، حتى أصبح الشيخ الزمزمي في سنواته الأخيرة مختصا بالإفتاء المثير في “المجال الجنسي”، وهي الصورة الإعلامية التي غطت عن جهود سابقة للشيخ عبد الباري الزمزمي قضاها مجتهدا لسنوات عدّة في فقه النوازل فقد “كان الشيخ الزمزمي فقيها نوازليا، ولفقه النوازل في المغرب تاريخ عريض وسجل حافل، وهو فقه يتعامل مع المستجدات التي لا قبل للناس بها، ويُعامِل قضايا لا يجد الناس لها حلولا، فيفسح للناس في ما ضاقت بهم الأحوال، سعيا وراء رفع الحرج عنهم، أو هو بمعنى آخر مطابقة المستجدات مع الشرع” (إدريس الكنبوري، دفاعا عن الشيخ عبد الباري الزمزمي).

تعرض الشيخ الزمزمي في فبراير من سنة 2001 للتوقيف والمنع عن الخطابة والوعظ في المساجد من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، نظرا لشعبيته المتنامية بمسجد الحمراء بمدينة الدار البيضاء ولتعاطفه السياسي الكبير حينئذ مع حزب العدالة والتنمية، مما جعله يصطف سياسيا مع الحزب في صف المعارضة الإيديولوجية الشرسة لحكومة عبد الرحمن اليوسفي وسياستها في مجالات المرأة (خطة إدماج المرأة في التنمية) والثقافة وتطبيع العلاقات التجارية مع “دولة اسرائيل”.

لكن الأمر الذي أفاض كأس التوتر في علاقته بحكومة اليوسفي، وعجّل بمنعه من الخطابة على منبر الجمعة، تمثل في إصداره لمقال/ فتوى بجريدة التجديد في شتنبر2001 نفى فيه صفة “الشهيد” عن الزعيم الاتحادي المهدي بنبركة على اعتبار أن هذا الأخير حسب الفقيه الزمزمي “كان معارضا وينوي الإطاحة بالملك الراحل الحسن الثاني وفي ذلك خروج عن الطاعة والدولة”، وهو ما أثار ضده معارضة قوية من مختلف أطياف اليسار المغربي، وبالأخص من لدن حزب الاتحاد الاشتراكي. وقد تزامن هذا التوتر السياسي مع ظرفية حرجة عرفها الحقل الديني مباشرة بعد وقوع أحداث 11 شتنبر 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، وما تلتها من تداعيات أمنية وسياسية انعكست سلبا على معظم الفاعلين الدينيين المغاربة، وبالأخص على التيار السلفي.

وقد تميز السلوك السياسي للشيخ عبد الباري الزمزمي بالإضافة إلى سمة المحافظة السياسية -بمعيار الانحياز إلى الديمقراطية-، بخصومته الشديدة لليسار المغربي وللحركات الإسلامية وبالضبط لفصيليها البارزين: جماعة العدل والإحسان وحركة التوحيد والإصلاح؛ فبعد سنوات من علاقة الود والوئام التي كانت تجمعه بهذه الأخيرة، انقطع حبل تعاطفه معها على إثر تداعيات “فتوى الشهيد” المرتبطة بالتاريخ النضالي للزعيم المهدي بنبركة، مما حوَل الشيخ الزمزمي إلى معارض شرس لحزب العدالة والتنمية من خلال تصريحاته الصحفية المستمرة المهاجمة للحزب ولأمينه العام السابق عبد الإله بنكيران، الذي قرّر -عندما كان مديرا لجريدة التجديد- توقيف نشر العمود الشهير للشيخ “سبيل الرشد” على صفحات الجريدة الإسلامية.

في سنة 2007 ترشح الشيخ الزمزمي في الانتخابات التشريعية، في استثمار سياسي للرأسمال الرمزي الذي راكمه لعقود من الزمن باعتباره خطيبا للجمعة له شعبية كبيرة بمدينة الدار البيضاء، ووجها فقهيا مشهورا في الصحف والمواقع الإسلامية على شبكة الإنترنيت (كان الزمزمي خبيرا شرعيا مختصا في الفتوى في موقع إسلام أنلاين)، مما أهله للفوز بمقعد انتخابي عن دائرة أنفا بالدار البيضاء، بعد حصوله على سبعة آلاف صوت من الهيئة الناخبة، محتلا بذلك الرتبة الثانية بعد منافسته القيادية بحزب الاستقلال ياسمينة بادو.

وقد كان هذا الفوز اليتيم، هو حصيلة حزب النهضة والفضيلة في تلك الانتخابات، كما تحقق هذا الفوز الانتخابي، بفضل دعم الكثير من قواعد حزب العدالة والتنمية للشيخ الذي كانت تجمعه صداقة متينة مع القيادي في الحزب رشيد المدور، خاصة مع نشوب خلافات داخلية في الفرع المحلي للحزب إثر تقديمه لائحة مشتركة مع حزب قوات المواطنة الذي كان يرأسه رجل الأعمال عبد الرحيم الحجوجي.

بينما لم يحافظ الشيخ في الانتخابات التشريعية لـ25 نونبر 2011 على مقعده البرلماني، نظرا لفشل تجربته الانتدابية بمجلس النواب وللضعف التنظيمي البنيوي لحزب النهضة والفضيلة؛ وقد عزا الزمزمي سببه فشله الانتخابي في سلسلة كرسي الاعتراف بجريدة المساء: “..لكون الحزب الذي ترشحت باسمه (النهضة والفضيلة) حزبا مشلولا، لا يملك القوة الاقتراحية، فلا أسئلة جادة ولا برنامج واضحا” (المساء، الخميس 28 مارس 2013)

إباّن الحراك السياسي الذي عرفه المغرب سنة 2011، كان الشيخ عبد الباري الزمزمي من أبرز الأصوات الدينية المناهضة لحركة 20 فبراير ولمطالبها الدستورية والسياسية والاقتصادية نظرا لإيمانه المبدئي بالتراث الفقهي -السياسي المحافظ، الذي يعتبر أن أية معارضة للسلطة السياسية مهما تشبثت بمبدأ السلمية، تعدّ مدخلا للفتنة أي للفوضى العارمة و”اللادولة”.

وفي الحقيقة، يبقى هذا التصور التقليدي خلاصة منطقية لتبني الشيخ الزمزمي للتأويل الايديولوجي التاريخي الأسير لمفهوم “الفتنة”، الذي تحول لدى العديد من الفقهاء المحافظين إلى “طابو” ومسوّغ سياسي لمعارضة المطالب السياسية والحقوقية الساعية لإرساء مبادئ الحكم الديمقراطي في المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المغرب.

وأستحضر في هذا السياق، توظيف الشيخ الزمزمي لرمزيته الفقهية في أوجّ النضال السياسي لحركة 20 فبراير في صوغ فتاوى سياسية مثل: إفتاءه بتحريم التظاهر بعد إقرار دستور 2011، وتسويغه الفقهي لطقوس حفل الولاء، في ردّ على مطالب شخصيات عُلمائية (أحمد الريسوني، بنسالم باهشام ) وحقوقية وسياسية بإلغاء هذه الطقوس، إعادة النظر فيها لكي تواكب منطق العصر القائم على الإعلاء من قيم حقوق الإنسان وكرامته.

ويحُفظ للشيخ عبد الباري الزمزمي-على الرغم من كل الاعتراضات والتحفظات الحقوقية والفكرية على بعض فتاويه- إسهامه الحيوي في إثراء النقاش الفقهي والسياسي بالمغرب، حتى صار وجها إعلاميا مألوفا لدى المتتبعين للحقل السياسي والإعلامي، مما جعله من الأسماء النادرة ضمن نخبة علماء الدين الذين لهم حضور في النقاش العمومي بجهد فردي بحت، على الرغم من خوضه لتجربة حزبية شكلية في حزب النهضة والفضيلة، أو في حديثه الإعلامي المستمر بصفته رئيسا للجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل، التي كانت مظلة قانونية تمنحه مشروعية للإفتاء في المستجدات الفقهية العامة، قبل اندراج هذا الاختصاص الديني الخطير ضمن الصلاحيات الحصرية للهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء في المجلس العلمي الأعلى.

لذا، كان الشيخ عبد الباري الزمزمي من المعارضين لتقنين عملية الإفتاء ضمن هيئة رسمية، فاعتبر بأن “تقنين الفتوى،… متعذر في هذا العصر الذي اتسع فيه الخرق على الرقع، فكيف تقنن الفتوى مع وجود الأنترنيت والفاكس والهواتف والفضائيات الإسلامية التي يوجد في كل واحد منها مفتي أو أكثر، ويفتون بالمذاهب المختلفة، لهذا أرى أن تقنين الفتوى متعذر، فقد تقنن من الناحية الهيكلية لكن دون تأثير، لأن الناس يسمعون من جهات مختلفة وشتى، ولا يمكن أن يحاصرهم أحد في هذا المجال لاستحالة مراقبة الفضائيات والانترنيت” (جريدة الشرق الأوسط 16 أكتوبر 2004).

وبوفاته رحمه الله يكون الحقل الديني المغربي قد فقد أحد شخصياته الأكثر إثارة للجدل بإدماجه للفتوى في الصراع السياسي، كيف لا  وهو الذي اعتبر بأن منبر البرلمان سيكون بديلا عن منبر الجمعة الذي حرم منه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • الديمقراطي
    منذ 4 سنوات

    وهل الفتوى ضرورية ايها الفقيه في زمن الديمقراطية؟ام انها مصدر رزقكم ووسيلة لاعلاء شانكم على حسابنا؟ نحن وبكل تواضع واحترام نرفضكم ونكتفي بامارة المومنين والتي بدورها يجب ان تتطور نحن الاحسن.انصرفوا عن شاننا لاننا لسنا منكم بكل بساطة.