الأسرة، مجتمع

“العادات الغذائية” 18: تاريخ الغذاء والتاريخ العام.. ولادة متأخرة 

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”. 

الحلقة 18

تاريخ الغذاء والتاريخ العام

في إطار التوجهات الحديثة للبحث التاريخي، نجد تاريخ الغذاء هو الحقل المعرفي الذي يلتقي فيه الطبيعي والإنساني، إنه التاريخ الذي يسجل ثمرة الجهد المضني الذي قام من خلاله الإنسان بتحويل الثروات الحيوانية والنباتية إلى الاستعمال اليومي.  يكشف تاريخ الغذاء بشكل ما عن بنية اليومي، دخول أغذية جديدة إلى النظام الغذائي، طريقة تحضير وتقبل وصفات تعبر عن ذوق جديد ناهيك عن ترحال الأغذية والوصفات من ثقافة إلى أخرى.

تاريخ الغذاء: ولادة متأخرة 

 قلما أعار المؤرخون بأوروبا اهتماما لموضوع التغذية في معرض فردهم لمجريات التاريخ العام، ذلك أن تطرقهم لبعض عناصر الحياة اليومية والعادات الغذائية لم يكن إلا بمثابة ديكور غير ذي قيمة يؤثث التاريخ العام، لهذا لم يتم ربط تحولات العادات الغذائية بالتحولات الاجتماعية والسياسية إلا ابتداء من سنوات العشرينات من القرن الماضي.

 نشير في هذا الباب، إلى الطرح الذي قدمته بعض النصوص الهامة لكل من المؤرخ البولوني موريزيو سنة 1928 الذي سنعرض لمساهمته  في الفقرات اللاحقة حول تاريخ الحبوب.

كما لا ننسى أيضا المؤرخين الإنجليزيين: أسلي (W.Asley) وكتابه حول تاريخ الخبز المنشور سنة 1928 و سلمان (R.N.Salman) وكتابه حول تاريخ البطاطس الذي نشر سنة 1949، بالإضافة إلى المؤلف الهام الذي نشره المؤرخ والجغرافي الفرنسي روجي ديون (Roger Dion) الذي تناول تاريخ الكروم والخمور بفرنسا.

لقد تجلت أهمية الكتابات الأولى حول تاريخ الغذاء في إثارة زمرة من القضايا الهامة التي نذكر منها: أثر تحول العادات الغذائية في التوازن النفسي والبيولوجي، مساهمة التوسع الاستعماري في تحول النظام الغذائي، ناهيك عن دور الغذاء في التعبير عن الطبقات والفئات الاجتماعية. 

إن انصراف البحث التاريخي إلى موضوع الغذاء جعل المؤرخ جون لوي فراندران (Jean Luis Frandrin) يؤكد أن التاريخ لم يعد لصيقا بالأحداث والشخصيات الكبرى على الخصوص.

 سيتعلق تاريخ الغذاء إذن ببنية اليومي الذي تدخل في إطاره القيم الغذائية  الخاصة بالشعوب، ذلك أنه خلافا للأحداث السياسية تقع الأحداث اليومية خلال  أمد طويل يمكن أن ندعوه بزمن البنيات حسب تعبير بروديل.

لقد انحصر البحث التاريخي في موضوع الغذاء في رصد ثلاث محاور مرتبطة بالإنتاج، الاستهلاك ثم الذوق، ويعتبر لوكران دوسي أول من طبق هذه الرؤية في كتابه حول الحياة الخاصة للفرنسيين.

 غير أن هذا النوع من الرؤى لم يثر شهية البحث في شأن التغذية، حيث سيتم انتظار سنوات الستينات حتى يتسنى تناول اليومي الغذائي من طرف المؤرخين وفق مقاربات متعددة المداخل، تمس البلدان والجهات كما ترصد الإنتاج والممارسات والخطاب الرائج حول الغذاء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *