الأسرة، مجتمع

“العادات الغذائية” 20: ثغرات منهجية في التناول التاريخي للغذاء بالمغرب

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

الحلقة 20

تناول المؤرخين لمشكل الغذاء بالمغرب 

لقد عرف المغرب عبر التاريخ اضطرابات مناخية، حيث الانتظار القلق للمطر في فترات الجفاف، انتقال حشود وجماعات من أماكن لأخرى بحثا عن الكلأ والماء…، و لا شك أن هذه المظاهر من بين أخرى، شكلت مشاهد دالة، أثارت الحفيظة العلمية للمؤرخ واهتمامه بالسؤال الأساسي والحيوي الذي شغل المغرب في القرون الماضية، وهو مشكل الغذاء.

ثغرات منهجية في التناول التاريخي للغذاء بالمغرب

بيد أن اهتمام بعض المؤرخين بمشكل الغذاء، لا يمثل إلا تفكيرا في الموضوع داخل إطار عام وهو “الأزمة”، حيث التطرق إلى الغذاء عن طريق الحديث عن (المجاعات، الجراد، الأوبئة و القحط). 

 بهذا، انفلتت دراسة اليومي الغذائي من هذه الكتابات، وهي الدراسة التي كان يمكن معها التعرف على ما كان يقتات به المغربي في حياته العادية، في ظروف كانت تتميز بالاعتماد الكلي على المطر وما تذر به الأرض.

 كما كان حريا بهذه الدراسات أن تعيد التساؤل حول مشكل الجوع ذاته، وتعيد تشكيل أو قراءة منطق حدوث الأزمة الغذائية في مغرب تلك العهود، مجيبة على سؤال من قبيل : ما هو أثر الأزمات الطبيعية المتوالية في طرق تدبير الغذاء اليومي وفي تطور أساليب تخرين وحفظ الأغذية؟

سنجد فضلا عن ذلك، كيف يمكن لدارسة الغذاء تاريخيا، أن تخرج بتسلسل قد يكون مفتعلا تفرضه طبيعة المصادر، حيث إمكانية وجود وثائق تغطي فترات معنية دون أخرى، أو تفرط في التركيز على جوانب بعينها.

 ولا شك أن، هذه الأمور من بين أخرى، كانت دافعا جعلت روزونبرجي (Rosenberger) في كتابة الذي صدر حديثا، يعترف بمحدودية النتائج التي توصل إليها في البحث الذي قام به في معية حميد التريكي، إذ نبه إلى وقوعه في التركيز على دور العوامل المناخية والطبيعية في التسبب في المشاكل المرتبطة بالغذاء، في حين قد يعود ذلك  في جانب منه إلى عدم التكافؤ في توزيع الثروات بين الفئات.

من هنا يمكن القول، أن الاهتمام الفعلي بموضوع الغذاء من قبل البحوث التاريخية لم يبدأ إلا حديثا، في الوقت الذي قطعت فيه الدراسات التاريخية الغربية أشواطا هامة،  وذلك بتحقيق تراكم لإسهامات هامة حول تاريخ اللباس، الديكور و الذواقة.

إننا لا ننكر بأي حال  جهود بعض المؤرخين في  التأريخ للعادات الغذائية، ونخص بالذكر  ذلك الكتاب الهام  الذي نشره  كل من عبد الأحد السبتي  وعبد الرحمن الخصاصي  حول الشاي، حيث نسجل سعيهما الحثيث في تتبع سير هذا المشروب  وتحوله إلى مشروب وطني بامتياز من خلال سبر مجموعة من الوثائق التاريخية. 

غير أن المؤلف وإن  أعطانا صورة وافية لكرنولوجيا استهلاك هذه المادة بالمغرب، فإنه غفل الإجابة عن سؤال أساسي : كيف تحول الشاي إلى مشروب وطني، بطريقة أخرى كيف تم “تثبيت هذه المادة ” في عمق التقاليد المغربية، أو بالأحرى كيف تحول الاستهلاك إلى عادة مفعمة بالطقوس والمعاني، أو لماذا الشاي وليس مشروبا آخر؟ .

كما لا يفوتنا التنويه بإحدى الرسائل الجامعية في شعبة التاريخ التي تناولت موضوع الغذاء في العصر الوسيط، منصرفة عن تتبع العادات الغذائية في زمن الأزمة إلى رصدها في اليومي.

 غير أننا وإن كنا نؤكد أن هذا البحث يوفر مادة تاريخية لا يمكن استنفاذ مكتسباتها، فهو يقدم معرفة عامة و غير دقيقة، في نظرنا، لأنها مجانبة لطبيعة العادات الغذائية الموسومة بمفارقة بطء التغير وشدة التنوع.

 إن المحدد الإيكولوجي مثلا  لا يسمح بتعميم العادات الغذائية التي تسود مختلف التضاريس بالنظر إلى الاختلاف السائد داخل ذات الصنف (جبال الأطلس وجبال الريف مثلا)، فضلا عن محدودية الأصول الإثنية في التعبير وحدها عن خصوصية العادات الغذائية نظرا للتداخل الحاصل بينها، ونظرا لوجود محددات أخرى كالهجرة التي قد لا تصمد بفعلها بعض العادات الغذائية أمام رياح التغيير.

إن اختيارنا البحث في موضوع التحولات الغذائية، لا يعني أننا سنوجه اهتمامنا صوب الماضي مع ما يتطلبه ذلك من قواعد التحقيب الزمني وأصول التتبع الكرونولوجي للتحولات المرتبطة بالغذاء،  ذلك أن من بين ما يدعونا إلى الرجوع إلى التاريخ، هو إحدى التعريفات التي نضعها للتحولات، معتبرين إياها سيرورات لها امتداد في الزمن.

 غيرأن  ذلك لا يعني أننا سنمارس ذات عمل المؤرخ، كما لا نميل إلى الخوض في السجال الإبستمولوجي الكبير حول علاقة الأنثروبولوجيا بالتاريخ . إننا نؤكد أن ما يحكم رجوعنا إلى التاريخ مجموعة من الشروط المرتبطة بخصوصية التحولات الغذائية، مكتسبات وثغرات الرصد التاريخي لهذه التحولات، بالإضافة إلى اعتمادنا الأساسي على التحولات الدالة بالنسبة لمنطقة البحث .

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *