وجهة نظر

الصغار في زمن الحجر الصحي

تعتبر تجربة الحجر الصحي تجربة قاسية على الصغار أكثر من الكبار، بحكم التفاوتات المسجلة بين الكبار والصغار، على مستوى القدرة على التحمل والتحكم في السلوك ومواجهة الأوضاع الرتيبة. ولعل من بين ما يفتقده كثيرا الصغار خلال هذه التجربة هو اللعب، وخاصة ذلك الذي يتطلب المساحات الشاسعة من أجل الركض والجري والإختباء والعراك والصراخ بأعلى صوت وإطلاق العنان للحركة بكل انسيابية. لكن أمام تواجد مساحات ضيقة في إطار ما يسمى بالسكن الجماعي المشترك، يتحول وضع الطفل إلى وضع مشابه بوضع السجين، تصبح جميع حركاته مقيدة ويتطلب الأمر منه مزيد من التحكم في سلوكاته وفي مستويات صوته، والتصرف بعقلانية أكثر بدل تلك العفوية الطبيعية، وهذا أمر صعب على الأطفال، فهو شبيه إلى حد كبير بعملية الترويض التي تقوم بها الثقافة للطبيعة، مما قد يرفع من إحتمال ممارسة العنف على الأطفال من طرف الكبار.

اللعب ارتياح بلا هدف، ومتعة خالصة من أي غرض، إنه النشاط الوحيد تقريبا الذي يمارسه الإنسان بدون هدف محدد سوى المتعة الناتجة عنه.
يكون الإنسان إنسانا حين يلعب كما قال شيللر، بل لقد ذهب بعض علماء النفس إلى اعتبار أن اللعب هو أصل كل الفنون، وقد يستعمل كحافز أساسي للطفل من أجل القيام بواجباته الأساسية التي يتطلبها تعلمه. فالأطفال لما يلعبون فهم ينفسون عن مخزون الطاقة ويطورون قدراتهم التعلمية، ويكتشفون العلاقات التي تربط بين الإدراك والإستجابة أي بين إدراك نمط معين والفعل الملائم له. ويمكن القول بأن أكثر اللعب شيوعا لدى الأطفال هو لعب العراك والمصارعة والإتصالات البدنية، أو ما يدخل في إطار ما يسمى باللعب الحر. لقد افترضت ميلاني كلاين وهي محللة نفسانية نمساوية (1882- 1960) متخصصة في ” علم نفس الطفل”، أن ما يفعله الطفل في اللعب الحر يرمز إلى الرغبات والمخاوف والمسرات والصراعات والهموم التي لا يكون على وعي بها، لذلك اقترحت اللعب العفوي أو التلقائي كبديل عن التداوي بالتداعي الحر اللفظي الذي كان قد استخدمه سيغموند فرويد في علاج الكبار.

إن الأطفال يجدون صعوبة بالغة في الجلوس جامدين دون حركة لفترة طويلة مثل الكبار، وهذا غير راجع لفرط الطاقة المتواجدة لديهم التي يسعون إلى إستهلاكها، بل يعود ذلك إلى نقص في التكامل وفي ضبط أجهزة الحركة مقارنة بالكبار. فالصغار لا يستطيعون مثلا الجلوس دون تحريك أيديهم وأرجلهم، بل لا يتحملون الحركات المتقنة والمنتقاة بعناية، ولا يقبلون الجلوس المعتدل أو الهمس في الأذن، فكل ذلك يصيبهم بالتوتر وبالتالي فصحتهم ولياقتهم تكمن في حركتهم وتمرنهم وليس في توترهم. ولما يجدون الكبار أنفسهم في فضاءات صغيرة يقتسمونها مع الغير من فوق ومن تحت، فإن جل حركات الصغار تصبح مصدر إزعاج لهم، ويدخلون في ممارسة الكثير من الضغوط عليهم من أجل تكييف حركتهم مع سياق تواجدهم والقبول بالتوتر الذي يصابون به نتيجة ذلك من أجل إجتناب توتر الكبار. وبحكم أن هذا التكيف صعب على الأطفال ونتيجة عدم التزامهم به فإنه يؤدي إلى تعنيفهم إما بطريقة مادية أي بواسطة الضرب أو بطريقة رمزية أي معاقبتهم بحرمانهم من بعض الأمور التي يجدون فيها متعة. وما يزيد من مضاعفة ذلك خلال فترة الحجر الصحي هو كون أن البيئة الرتيبة تسبب ضيقا للصغار، مما يدفعهم ذلك إلى محاولة إحداث تغييرات فيها باللجوء إلى ما هو جديد نسبيا، وبالتالي يصبح الممنوع هو المرغوب.

صحيح أن هناك بعض البدائل الموجودة حاليا من أجل اللعب كالأجهزة الإلكترونية ومشاهدة التلفاز، لكن هذا النوع من اللعب لا يشبع رغبة الصغار بل تساهم فقط في التقليل من الفرط في حركتهم، وتخاطب تكوينهم الذهني أكثر من تكوينهم البدني، كما أن قيام الطفل بنفس الأنشطة التي تتعلق بأنواع السلوك البصرية المشابهة قد يؤدي- حسب ذوي الإختصاص- إلى ضعف الأداء في كل الأعمال تقريبا التي تحتاج إلى التركيز والإنتباه، وهناك بعض الدراسات التي تربط بين الإدمان على هذه الأجهزة والتوتر. إن الطفل يحتاج إلى اللعب المبني على الحركات الجسدية أكثر، لأنه يوجد في سياق تطوير منطق الحركة العشوائية الفطرية إلى مستوى الحركة الإرادية المفيدة التي سوف تعِينه على التقاط الأشياء والكتابة والحياكة وعلى كل الأنشطة الإنسانية.

من الممكن تجنب هذه المخاطر الناتجة عن الحجر الصحي، إذا ما حاولنا فهم سلوك الصغار واعتبارهم ليسوا نسخة طبق الأصل للكبار، والعمل على تلبية رغباتهم في حدود معينة حيث بدون إفراط ولا تفريط. فالإحباط المتكرر والمبالغ فيه لرغبة الطفل قد يؤدي إلى نتائج كارثية على المستوى النفسي والبدني، على عكس الإحباط غير المبالغ فيه؛ فهو حسب ميلاني كلاين قد يفيد في مساعدة الطفل على التكيف مع العالم الخارجي ويتطور لديه مفهوم الواقع. وبمثل المخاوف التي تشكلت لدينا بخصوص مستقبل الإقتصاد، ينبغي أن تكون لدينا مخاوف بخصوص مستقبل الصحة النفسية للصغار، وبالتالي علينا تكثيف البرامج والخطوات التي من شأنها أن تحسس بأهمية هذا الموضوع للمجتمع وللأسر وللأفراد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *