منتدى العمق

المقاصد الروحية للصوم في رمضان (2)

لقد فرض الله علينا الصيام في رمضان، وما فرضه إلا لأسرار عليا وحكم بالغة، نعرف منها ما نعرف ونجهل منها ما نجهل، ويكشف الزمان عن بعضها ما يكشف. فعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع والعطش، وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده الله لا كما اشتهاه الناس.

الصوم تقوية للروح، ولن نستطيع أن ندرك سر هذا الصوم إلا إذا أدركنا سر هذا الإنسان .. فما الإنسان وما حقيقته، هل هو هذه الجثة القائمة، وهذا الهيكل المنتصب؟ هل هو هذه المجموعة من الأجهزة والخلايا واللحم والدم والعظم والعصب؟ إن كان الإنسان هو ذلك فما أحقره وما أصغره!!

نعم ليس الإنسان هو ذلك الهيكل المحسوس، إنما هو روح سماوي يسكن هذا الجسم الأرضي. وسر من الملأ الأعلى في غلاف من طين .

ذلكم هو الإنسان روح وجسد، فلجسده مطالب من جنس عالمه السفلي، وللروح مطالب من جنس عالمها العلوي. فإذا أخضع الإنسان أشواق روحه لمطالب جسده، وحكم غريزته في عقله، استحال من ملاك رحيم إلى حيوان ذميم، وربما إلى شيطان رجيم. هذا الذي ناداه الشاعر المؤمن:

يـا خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

ومن هنا فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه. وينطلق من سجن جسده ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته ويتشبه بالملائكة، فليس عجيبا أن يرتقي روح الصائم و يقترب من الملأ الأعلى ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح ويدعوا ربه فيستجيب له، ويناديه فيقول: (لبيك عبدي لبيك) وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم .

يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي في إحيائه: (المقصود من الصوم، التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل وهو الصَّمَدِيَّة، والإقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان. فإنهم منزهون عن الشهوات، والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات أرتفع إلى أعلى علِّيين والتحق بأفق الملائكة. والملائكة مقرَّبون من الله عز وجل والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، وليس القرب ثم بالمكان بل بالصفات).

ويزيده العلامة ابن القيم إيضاحا وتفصيلا فيقول: (المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما في غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ويذكِّرها بما للأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضر في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين.

ويمضي ابن القيم ببلاغته في شرح أسرار الصوم ومقاصده الروحية، فيقول: (وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، “والقوى الباطنة” وحميتها عن التخليص الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له من صحتها. فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبت منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال الله تعالى: “يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون سورة البقرة الآية 183.

ويعود إلى الموضوع فيقول: (لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفا على جمعيته على الله، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، ما يريده شعثاً، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضرّه ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة.

ولما كان هذا هو المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع الإعتكاف –في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان- الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلف والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته.
ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه اعتكف مفطرا قط، بل قد قالت عائشة رضي الله عنها: (لا اعتكاف إلا بصوم، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم.

فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: أن الصوم شرط في الاعتكاف وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية.

فالصيام يجعل المسلم مهذب النفس كريم الطبع، شريف السلوك، لا يتكلم إلا حسنا ولا يفعل إلا جميلا، ذلك أن الصائم إذا تذكر أنه من أجل رضاء الله ومحبته ترك كل الشهوات وسائر متعه وملاذه. كان الصيام بالنسبة إليه درسا عمليا في ترويض نفسه على التجمل بمحاسن العادات والتحلي بجميل الصفات وبذلك يكون في الحياة إنسانا خيره مأمول، وشره مأمون، فإذا خلا الصيام من هذه المعاني التي تضبط النفس، وتهذب الخلق وتقوم الطبع، كان الصيام حرمانا لا يرجى منه خير، وبالتالي يكون صياما لا وزن له ولا اعتبار له عند الله.

وصفوة القول أن” للصوم زيادة على أثره التربوي فضل في رفع الروحانية وتصفيتها، فهو إمساك الجسم والنفس عن مبتغاهما. وتزكيه نية القربة إلى الله، فتكتسب الروحانية شفافية. إن هذه النفوس أقرب ما تكون للإلتئام والتحاب والتعاون إن تهذبت من كدورات الشهوات، وسمت عن الماديات في رمضان تسود روحانية خاصة لو لا تحويل الناس ليالي مناسبات للتخمة. فعلى جند الله أن يحافظوا للشهر المبارك بوظيفته، ويستمرون السنة كلها إن استطاعوا على ذلك المستوى من الشفافية مستعينين بصوم الاثنين والخميس، والأيام البيض ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء والستة من شوال. ويكثروا الصيام في شعبان والمحرم .. وليراقب المؤمنون أنفسهم، فمن لم تظهر نتائج الصيام في سلوكه، فليعلم أنه إنما جاع وعطش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وأصحاب السنن عن أبي هريرة: (من لم يدع قول الزور والعمل به فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *