الأسرة، مجتمع

“العادات الغذائية” 22: تأثير ارتفاع الدخل وتسويق المنتجات الغذائية على تغذية المجتمع القروي

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

الحلقة 22

الفلاحة كمصدر للتغذية

لقد انصبت العلوم الغذائية على ما هو إيكولوجي في سبيل صياغة استراتيجيا غذائية وفلاحية، فركزت بالتالي على دور المحددات المناخية والتقنيات الفلاحية في الرفع من الاستهلاك الغذائي وفي انخفاض أو تفاقم المشاكل المرتبطة بالغذاء. لذلك كانت الحلول المقترحة في هذا الإطار مصحوبة بالنزعة الإنتاجية، التي وإن أدت إلى ارتفاع معدل أمل الحياة  عند الولادة وانخفاض معدل الوفيات، فقد صاحبها ظهور وتفاقم الأمراض المرتبطة بالغذاء.

كما أكدت مجموعة من الدراسات على صعوبة صياغة إستراتيجية تدعم مساهمة الفلاحة في التغذية وترجع في جزء منها إلى كون الفلاح قد يستهلك أغذية لا ينتجها أو يسوق أغذية ينتجها.

الإنتاج الفلاحي ومستوى العيش

أثبتت مجموعة من الدراسات أن التنمية الفلاحية تساهم في الرفع من الدخل ومن ثم في تحسين الوضعية الغذائية، في حين ارتأت أبحاث أخرى أن تأثير المشاريع الزراعية في تغذية الساكنة يرجع بالأساس إلى نوعية هذه المشاريع. كما أكدت  أخرى أن المشاريع المدرة للدخل تساهم في انخفاض النفقات الغذائية مقابل ارتفاع النفقات الأسرية الأخرى.

فإذا كانت مشاريع من قبيل تلك المرتبطة بالسقي، التسويق، زراعة أغذية جديدة، مشاريع مدرة للدخل،  فإن مساهمتها في التغذية تعود بالأساس إلى طبيعة   المناطق التي أقيمت فيها هذه المشاريع، ويتعلق الأمر بالمناخ، التربة،  السياسة المحلية، المستوى الاقتصادي والثقافة السائدة.

 لقد اعتادت الدراسات التي تزمع تقييم المشاريع الفلاحية  التطرق إلى الجانب الاقتصادي والتقني مركزة على الدخل والتطور التقني،  في حين غاب عنها البعد الاجتماعي والثقافي الذي يمكن أن يحول أو يذكي هذه المشاريع، ومن ثم قلما اهتدت هذه الدراسات إلى الحديث مثلا عن أثر المشاريع الفلاحية في تحول العادات الغذائية.

 في مثال ذي صلة، نشير إلى دراسة هامة حاولت تقييم مشاريع فلاحية في كل من تادلة بالمغرب ومنطقة الجزيرة بالسودان، مشيدة بالتطور الاقتصادي الذي لحق المنطقة جراء هذه المشاريع، إلا أنها غفلت التطرق إلى أثر هذه المشاريع على تحقيق الرفاهية الفردية رغم إشارتها إلى إقصاء القائمين على المشاريع  للبعد الإنساني للمشروع.

لقد تضاربت الآراء حول المشاريع التي من شأنها تحقيق تأثير إيجابي على الوضعية الغذائية، فهل هي فعلا المشاريع المرتبطة بالإنتاج الزراعي والغذائي، أم أن الأمر يتطلب إقامة مشاريع مدرة للدخل، أم أن القضية ليست لا هذا ولا ذاك بل القيام بمواكبة اجتماعية وثقافية لهذه المشاريع.

إن زحف مشروع لوكوس بما أتى به من مزروعات جديدة وطرق حديثة  للزراعة والسقي، قد يعطي انطباعا بأن المشروع  سوف يغطي بشكل  كبير حاجيات السكان الغذائية في المناطق التي توجد تحت نفوذه، بالنظر أيضا إلى تحقيق الأمن الغذائي والرفع من الدخل كأول الأهداف التي حكمت إنشاء المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بمنطقة البحث،  فهل حقق المشروع هذا الهدف بالفعل ؟

أثبت بعض التجارب أن الرفع من دخل الفلاح قد يؤدي به ليس إلى التفكير في ابتياع ما يلبي الحاجيات الأساسية كالغذاء بل إلى اقتناء بعض الأشياء التي كان يحلم بها والتي قد تدل على الترف لا أكثر كجهاز الراديو و التلفاز.

وكمثال على ذلك نلقي الضوء على بحث أورد أجوبة بعض المبحوثين حول ما يزمعون القيام به بفائض الدخل، إذ تركز أجوبتهم على شراء الأرض، الملابس، السفر دون الإشارة بتاتا إلى تلبية الحاجيات الغذائية. غير أن هذا الأمر قد لا يعكس بالضرورة الواقع باعتبار أن موضوع التغذية موضوع اعتيادي وبديهي بالنسبة للمبحوثين لذلك لم يتطرقوا له.

في النهاية ترى الباحثة صباح بن جلون أن الزيادة في دخل الفلاح قد تؤدي إلى تغير نمط العيش مما يجعل هذا الأخير ميالا إلى اقتناء ما يرمز إلى الحداثة، ومن ثم يأتي ذلك على حساب المقتنيات الغذائية، مما حدا بالباحثة إلى الدعوة إلى ضرورة نشر تربية ووعي جديد يرافق ارتفاع دخل الفلاح، يذكي التدبير الجيد للدخل ويعقلن النفقات الغذائية.

 من هنا فإذا كان تسويق الساكنة لبعض المنتوجات  الفلاحية سيوفر عائدا ماديا،  فهذا لا يعني تخصيصه للمقتنيات الغذائية.

وعن سؤالنا المتعلق بالعائدات المادية للفلاحة بالمنطقة المسقية، أشار معظم المبحوثين إلى ما يقتضيه تجهيز المنطقة بالماء والكهرباء من اقتناء بعض التجهيزات المنزلية كالثلاجة والفرن والتلفزة .

في حين، كان سؤالنا حول دور ارتفاع الدخل المادي في تغيير العادات الغذائية للأسرة يثير دهشة المبحوثين، ذلك أن التغيير الذي سيحصل بالنسبة للعادات  الغذائية،  سواء في المناطق المستفيدة أو التي تنتظر الاستفادة من المشروع،  سيكون على مستوى كمية المواد الغذائية التي سيتم جلبها، ونخص بالذكر اللحوم التي يعتبرونها غذاء دالا على ارتفاع المستوى الاجتماعي، يميز بالتالي الفئات الميسورة عن الفقيرة.

لقد  أنجزت مجموعة من الدراسات التي حاولت إيجاد علاقة بين الإنتاج والتغذية، حيث نص بعضها على أن انخفاض الإنتاج الزراعي الذي يزود الأسرة بالتغذية سوف يؤدي إلى اقتناء الأغذية من السوق.

 وإذا كان الانفتاح على السوق سيؤدي إلى تغيير العادات الغذائية نظرا لكون السوق يوفر بعض الأغذية التي لا تنتجها الأسرة أو تحضرها، فإن تسويق بعض المواد الغذائية التي تنتجها الأسرة سيعمل  على تراجع استعمالها كما هو الشأن مثلا بالنسبة للحليب.

 في هذا السياق، كشفت بعض الأبحاث على أن إحداث  تعاونيات للحليب بالعالم القروي لن يؤدي إلى تراجع استهلاك هذه المادة نظرا لكون النظام التعاوني سيشجع الساكنة على الرفع من الإنتاج، إلا أن الأمر سينعكس بالدرجة الأولى  على تراجع استهلاك القرويين لبعض المواد المحضرة بواسطة الحليب (السمن، اللبن، الجبن و الرايب).

 يمكن القول في نهاية المطاف أن النسبة المخصصة للتغذية من الدخل ترجع إلى مجموعة من العوامل، يعود حيز منها إلى نوع الدخل، تقسيم العمل و تدبير الميزانية، كما تعود أيضا إلى محددات أخرى كالسوق،وفرة المواد الغذائية و الحاجيات الغذائية الأسرية.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *