رمضانيات، مجتمع

الإشارات السياسية في قصة موسى.. المصلحون وشرط الوضوح في تبيلغ الرسالة

الحلقة 14

المنطلق، قوله تعالى:”قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي () وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي () وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي () يَفْقَهُوا قَوْلِي () وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي () هَارُونَ أَخِي () اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي () وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي () كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا () وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا () إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ()” والشرح والانشراح دلالة على السعة، والتوسع، والوسع؛ مما يدفع الحرج والضيق والعسر. ومنه الشرح؛ دفع المبهم والغامض وسوء الفهم. فإذا شُرح الشيء كان يسيرا نافذا إلى النفس مُتقبلا. وفي القرآن الكريم ورد بهذه المعاني منه قوله تعالى:”فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ” والشرح هنا الاستعداد الذي يجده الإنسان في نفسه من حَسن الأعمال وقبيحها؛ فهو وارد في الكفر كما وروده في الإيمان؛ ومنه قوله تعالى:” مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ”.

وسؤال موسى عليه السلام الله تعالى أن يشرح صدره معناه وغايته أن لا يجعل في نفسه حرج منه؛ وهذا مطلوب ليس في مقام النبوة والإصلاح فقط، ولكنه مطلوب في كل فكرة نريد إيصالها إلى الآخر؛ ذلك أن الشارح لزمه أن يكون زال في نفسه من الفكرة حرج الفهم وحرج القلب؛ إذ لا يستقيم أن نبلغ فكرة لنا منها حرج؛ فإذا تحرجت النفس من الفكرة ذهب منها قبولها؛ ولهذا كان المتحرجون من دعوة الأنبياء تضيق صدورهم بها كأنما يصعدون في السماء على حكي القرآن. فاللسان إنما هو صورة السريرة، فإذا ضاق الصدر وتحرج امتد إلى اللسان فأعاقه،”يضيق صدري ولا ينطلق لساني”. ولا يعقب زوال الحرج إلا اليسر؛ وهو قريب من قوله تعالى:” أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ”.

فلما انشرح الصدر بالفكرة وحصل اليقين منها؛ عزم موسى على الانطلاق إلى فرعون، وكأنه مقبل على امتحان؛ فيطلب التيسير كما يرجو الممتحنون عادة من الطلاب . فيقف موسى عليه السلام أمام فرعون، وملئه، وحاشيته؛ فيما يشبه اللجان الممتحنة، فيسأل ويجيب، وهذا مر معنا في الحلقة السابقة.

قوله: “واحلل عقدة من لساني”..فقد كان الداعية والمصلح في حاجة إلى وسيلة لنقل ما في صدره إلى المستهدفين؛ إذ لا يكفي الفكرة أن تكون في نفس صاحبها مشروعة بينة؛ بل هي في حاجة إلى العبارة الملفوظة أو المكتوبة. فالله وحده المطلع على الصدور؛ أما المخلوق فوسيلته للكشف إنما هي اللغة؛ وفي مقام موسى احتاج إلى الفصاحة لعلمه أن الفصيح أنفع وأجدى؛ إذ البيان كما يحكي الجاحظ: “اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، و يهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك و من أي جنس كان ذلك الدليل، لان مدار الأمر و الغاية التي إليها يجري القائل و السامع، إنما هو: الفهم و الإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام، و أوضحت عن المعنى، فذاك البيان في ذلك الموضع”وقديما قال سقراط: “تكلم حتى أراك” . ويحضرني قول جميل نقله الجاحظ عن العتابي قالك:” كلّ من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حـُبسة ولا استعانة فهو بليغ.فقيل له: قد عرفنا الإعادة والحبسة، فما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدّث قال عند مقاطع كلامه: يا هـَـناه. ويا هـَيه، واسمع مني، واستمع إليَّ، وافهم عني، أوَ لست تفهم، أوَ لست تعقل. فهذا كله وما أشبهه عيٌّ وفساد”. قلت: وموسى في حواره لآل فرعون بما فيهم من الكبر والعلو لم يكن مسموحا له بالخطإ فيتحول إلى مسخرة بين يدي الطاغية وحاشيته.

قوله:”واجعل لي وزيرا من أهلي” وفي هذا إشارة إلى القرب؛ إذ أن أهل الإنسان أقرب الناس إليه؛ ليس بالضرورة من جهة التناسل والمصاهرة، ولكن من جهة المودة والثقة الحاصلة؛ تماما كجعل سلمان من آل البيت، وإنما اختار موسى أخاه هارون لمعرفته به وبحقيقته؛ وأن المقام لم يترك لموسى أن يختار ويجتبي من هو أجدى له من أخيه هارون. وهذه إشارة جميلة في ضرورة اجتباء، واختيار ،وايطفاء، وتقريب من نثق بهم في شؤون الحكم بلا وجه شك؛ فقد قال موسى اشدد به أزري؛ أي: احم به ظهري؛ فالذين نثق فيهم عادة هم الذين نجعلهم وراء ظهورنا؛ فنكون مطمئنين في مواجهة من يقفون أمامنا، وإذا ساء الاختيار هان عليهم الإجهاز علينا؛ ذلك أن المرء أضعف ما يكون أن يطمئن إلى ظهره.

ولما كان موسى أدرى بحال آل فرعون ومقامهم ظل مترددا خائفا من الإقبال. وهذا من الواقعية التي تتميز بها شخصية موسى عليه السلام، وهو ما يجب أن تتحلى بها الشخصية الإصلاحية في العموم. فكان موسى عليه السلام يطلب المزيد من التأييد وكان الوحي يستجيب. فالله أعطى لموسى ما سأل مما يعينه على أمره؛ لكنه أمره بالاستقامة وعدم الزيغ، إذ أن الاستقامة إنما هي في إرادة الإنسان وحريته، والله الهادي والموفق.

قوله:” واجعل لي وزيرا من أهلي”..والمقام هنا يحمل الوزارة على الأزر، والمؤازرة، والإعانة؛ وقد يحمل على الوزر، فقال الله تعالى: “سنشد عضدك بأخيك” والعضد هو ما بين المرفق والكتف، وهو كناية عن القوة؛ إذ العضد هو أقوى ما يعتمد الإنسان من عضلات جسمه لضم شيء أو صرعه. فكانت وظيفة هارون تماما كوظيفة أي وزير في أشكال الدولة القديمة، يعود إليه فيشاوره، ويتقاسم معه المسؤولية ويوجهه. فالوزير في أشكال الدولة القديمة إنما يتم اختياره بعناية؛ ليكون عقل الحاكم لما قد يحمل الحاكم غالبا على انشغاله بالمتاع والشهوات؛ فتفوته أشواط كثيرة من الحكمة وحسن التصرف أو لا يكون مهيأ لها . وهامان كانت هذه وظيفته يوجه فرعون ويملي عليه ما يجب عليه فعله فكان سبب هلاكه. فقد وعظ سفيان الثوري يوما أبا جعفر المنصور فأغلظ عليه القول، فقام أحد المتزلفين فقال: أمير المؤمنين يُستقبل هكذا..فقال له سفيان:اسكت، إنما أهلك فرعون هامان.

فكان اجتماع هارون وموسى خلاف اجتماع فرعون و هامان، وهذا مصداق قول موسى:” كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا”..فالذي يسبح ويذكر الله يعرف قدره فلا يتجاوزه، وقديما قيل للعارف بالله جلال الدين الرومي: نراك تقرأ كثيرا فماذا عرفت؟ قال: عرفت حدودي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *