المفكر العراقي علي القاسمي لـ”العمق”: نهضات البشرية الكبرى قامت على الترجمة

الجزء الأول
يعتبر المفكر العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، كاتبا متعدد الاهتمامات. فهو روائي وقاص وناقد ومترجم، إضافة إلى كونه أستاذا ً جامعياً متخصصاً في علم المصطلح وصناعة المعجم، وله اهتمام خاص بحقوق الإنسان والتنمية البشرية المستدامة. وتُدرَّس بعض كتبه، مثل كتابه “علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية” الذي تقع طبعته الثانية في 900 صفحة من الحجم الكبير، في معظم الجامعات العربية.
كما نُشِرت مجاميعه القصصية الست: “رسالة إلى حبيبتي” و”صمت البحر” و”دوائر الأحزان” و”أوان الرحيل” و”حياة سابقة” و”الحب في أوسلو”، في طبعات عديدة في العواصم العربية وتُرجِم الكثير منها إلى لغات عالمية، وصدرت له “الأعمال القصصية الكاملة” عن (مكتبة لبنان ناشرون). وحقَّقت روايته البكر “مرافئ الحب السبعة” نجاحاً كبيراً، فألف عنها الناقد المغربي إدريس الكريوي، كتاباً كاملاً يقع في 450 عنوانه “بلاغة السرد في الرواية العربية” صدر في بيروت والجزائر والرباط، ونُشِرت عنها دراسات نقدية بالعشرات. وإذا كانت مؤلفات القاسمي المنشورة قد تجاوز عددها خمسين كتاباً، فإن ما أُلِّفَ عنه من كُتُب ورسائل وأطروحات جامعية قد فاق عددها خمسين كتاباً كذلك.
عُرف عنه أنه يولي الأدب الأمريكي اهتماماً خاصاً، بعد أن درسه في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ترجم عددا من قصص همنغواي القصيرة، وروايتيْن من رواياته هما روايته السير ذاتية ” الوليمة المتنقلة”، وروايته القصيرة ” الشيخ والبحر” التي نال بعد نشرها جائزة نوبل للآداب سنة 1954. وقد أعيدت طباعة ترجمة القاسمي لهاتين الروايتين أكثر من عشر طبعات لكل واحدة منهما، في مختلف العواصم العربية.
إضافة إلى أن القاسمي أصدر كتابيْن يضمّان مختارات قصصية من الأدب الأمريكي هما: “مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة”، ” وكتاب ” مشاعل على الطريق: أروع وأبدع القصص الأمريكية الحديثة”. وأشار في مقدمته المطولة للكتاب الأخير التي تناول فيها تطور القصة القصيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن تلك القصص التي اختارها لكبار الأدباء، تصوِّر الحضارة الأمريكية وهي سائرة في طريق الانحطاط، بسبب الإيغال في المادية والرأسمالية المتوحشة، ما أدى إلى انحلال الأسرة، وتفشي بعض الأوبئة الجنسية، والميز العنصري، والعنف والعصابات، وتعاطي المخدِّرات، والفوارق الطبقية الكبيرة، وغير ذلك.
ولد القاسمي في بلدة الحمزة الشرقي بمحافظة القادسية في العراق سنة 1942، ودرس الآداب والقانون والتربية وعلم النفس في جامعات عديدة: جامعة بغداد، والجامعة الأمريكية في بيروت، والجامعة العربية في بيروت، وجامعة أوسلو، والسوربون، وأكسفورد، وجامعة تكساس في أوستن التي نال منها دكتوراه الفلسفة في علم اللغة التطبيقي سنة 1972، والتحق بعدها مباشرة أستاذاً زائراً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ووقع في حب المغرب فأقام فيه، وعمل في بعض المنظمات الدولية بالرباط مثل مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وعمل مديراً في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو).
ثمة موقع على الشابكة (الإنترنت) بعنوان “أصدقاء الدكتور علي القاسمي”، يستطيع القارئ الكريم أن يطَّلع على بعض مؤلَّفات القاسمي، وبعض الكتب والدراسات التي تناولت أعماله بالنقد.
كان بود جريدة العمق أن تجري حوارٍا مباشرا مع الدكتور القاسمي، بيدَ أنه بسبب الحجر الصحي، وجّهت إليه الأسئلة بالبريد الإلكتروني، فأجاب عليها مشكوراً.
حاوره عبد الغني بلوط
• ما جديد كتاباتكم؟ هل لذلك علاقة بمشروع فكري تريد أن تستمر فيه إلى النهاية؟
أقوم حاليا بترجمة بعض قصص إرنست همنغواي (1899ـ1961) المتعلِّقة بالصيد، وكتابة دراسة مستفيضة عن أسلوبه وتقنياته في السرد. وأنا ممن يرون أن لحياة الكاتب وحالته الصحية، البدنية والنفسية، وأحداث حياته، أثراً كبيراً في تشكيل كتاباته مضموناً وشكلاً.
وقد كشفت الممثلة الكاتبة ميريل همنغواي (حفيدة الكاتب من ابنه البكر جاك) أسراراً جديدة مؤخراً عن أسرة همنغواي، في فيلم وثائقي بعنوان “الهروب من الجنون” أعدّت هي مادته وشارك أربعة ممثلين من أسرة همنغواي في أداء الأدوار المختلفة، ودعمته بكتابٍ من تأليفها عنوانه “وطلعت الشمس: التغلب على تركة المرض العقلي، والإدمان، والانتحار في أُسرتي”. وتقول إن الانتحار وقع سبع مرات في أُسرتها. وتعزو هذا الميل إلى الانتحار إلى أن أفراد أُسرتها موهوبون ولكنهم توارثوا جينات الإبداع والاكتئاب من آبائهم. والاكتئاب يدفعهم إلى الإدمان فالانتحار.
فأبو الكاتب إرنست همنغواي، الطبيب كلارنس، فارق الحياة منتحراً في منزله بضاحية أوك بارك في مدينة شيكاغو بولاية ألينوي سنة 1928. وأخو الكاتب الوحيد الذي يصغره بـستة عشر عاما، الكاتب الروائي ليستر همنغواي (1915ـ 1982) انتحر بمنزله في شاطئ ميامي وعمره 67 عاماً، وحفيدة إرنست همنغواي، عارضة الأزياء الممثلة مارغو همنغواي (1954ـ1996) التي كانت توصف بأنها أجمل امرأة على مرِّ العصور، انتحرت بكمية كبيرة من المخدرات وعمرها 41 سنة في شقتها في سانتا مونيكا.
وتضيف الكاتبة الممثلة ميريل همنغواي قائلةً إنها هي نفسها مهدَّدة بالانتحار، وإنها تبذل جهوداً كبيرة للتخلُّص من الاكتئاب، عن طريق التحليل النفسي، والتعاليم الروحية، ومزاولة الرياضة، والمشي في المنتزهات وغير ذلك مما يوصي به الأطباء النفسيون.وترى أنه من المهم جداً أن يعترف الإنسان بالاكتئاب ويبوح به ويعمل على مكافحته بشتى الوسائل.
وكنتُ شخصياً قد ألّفتُ كتاباً بعنوان “الحب والإبداع والجنون: دراسات في طبيعة الكتابة الأدبية” (صدر عن دار الثقافة الجديدة بالدار البيضاء في 2006) تضمَّن دراسةً عنوانها “الإبداع والجنون، أية علاقة؟”، خلصتُ فيها إلى أن الإبداع يرتبط بشخصية المبدع وقدرته على تخيّل هياكل أو علاقات تتجاوز الواقع الذي نعيشه، بحيث يتصوَّر المبدع أشكالاً جديدة. و” تجاوز الواقع” و” تصوُّر أشياء غير موجودة” هما نوعان من الجنون. فالجنون فنون، كما يقولون. وقد أثبت الأطباء النفسانيون أن كلا الإبداع والجنون ينتقل بالمورِّثات (الجينات) من الآباء إلى البنين، وأن ثمَّة علاقة بين هذيْن النوعيْن من الجينات.
ويذكر الأطباء أن ” الذُّهان”، وهو اضطراب عقلي شديد ينتج عنه اختلالٌ شاملٌ في شخصية الفرد، تسبِّبه جينات تنتقل من الأبوين إلى الطفل. وفي دراسة شملت أكثر من 200 مبدع بريطاني، وجِد أن 21.5% منهم قد انتحروا، وأن 33.3% منهم قد دخلوا المستشفيات لعلاج اضطرابات عقلية أو نفسية.
إن دراستي التفصيلية لحياة إرنست همنغواي تساعد على تفهم أعمق وتذوق أكبر لأعماله الأدبية الخالدة.
• ترجمتم “كثيرا” عن “ارنست همنغواي”، ما الذي جذبك أكثر إلى هذا الكاتب الأمريكي الكبير؟
يُعدُّ إرنست همنغواي من أعظم أدباء أمريكا، إن لم يكن أعظمهم وأشهرهم على الإطلاق في جميع عصور الأدب الأمريكي. فمؤلَّفاته خالدة وبعضها يُدرَّس في المدارس الثانوية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بلدان أخرى. فترجمتي لروايته ” الشيخ والبحر”، مثلاً، تُدرَّس في المدارس الثانوية بدولة الإمارات العربية المتحدة. فهذه القصة الطويلة أو الرواية القصيرة تمجِّد القيم الإنسانية السامية، مثل نضال الإنسان واجتهاده من أجل التحكُّم في الطبيعية واستثمارها لترقية حياته، وعدم فقدان إيمانه بنفسه من جراء الانتكاسات التي يتعرّض لها. إضافة إلى ذلك، فقد كُتبِت بأسلوبٍ سهلٍ ممتنعٍ وتقنياتٍ سردية ٍ رفيعةٍ تترك أثراً عميقاً في نفس القارئ. فهي من الأدب العالمي الخالد الذي يستحق أن تقرأه الأجيال المتعاقبة.
إن اهتمامي بهمنغواي نابع من روعة أسلوبه. فلم يكُن أسلوب همنغواي وتقنياته محاكاةً لأسلوبِ أحد مشاهير الكتاب الذين سبقوه أو عاصروه. لا شك في أنه قرأ نصوصهم الأدبية واستحسن بعضها وتأثر ببعضها الآخر. ولكن الأسلوب الذي ميّزه عن الآخرين وأثرَّ في أساليب السرد باللغة الإنجليزية وغيرها، هو نتيجة تفكير وتجريب دائبين. وهذا ما أدركتْه لجنة جائزة نوبل للآداب التي منحته الجائزة سنة 1954، فقد ورد التسبيب التالي في قرارها: “… لإتقانه فنَّ السرد الذي برهن عليه مؤخراً في ” الشيخ والبحر”، وللتأثير الذي مارسه على الأسلوب المعاصر…”. فقد أمضى همنغواي الشهور الطوال بل السنين في تجربة الأساليب، فنجح في معظمها وأخفق في بعضها الآخر.
المقصود بالأسلوب هو مجموعة الملامح التعبيريّة التي يختارها المؤلِّف من العناصر اللغويّة القابلة للتَّبادل لنقل مقاصده إلى القارئ والتأثير فيه. ويختلف الأسلوب من كاتبٍ إلى آخر، بحسب نفسيّته وثقافته وخلفيته الاجتماعيّة، حتّى قيل في الفرنسيّة: “إنّ الأسلوب هو الرجل (أو الشخص) (Le style est l’homme.). أما التقنيّة فهي وسيلة فنيّة أو صنعة يستخدمها المؤلِّف في تشكيل عمله الأدبيّ بحيث تتضافر مع التقنيّات الأخرى لتحقيق أهدافه وإنتاج التأثير المطلوب في نفس القارئ.
هنا يحقّ للقارئ الكريم أًن يسأل: ما هي الخصائص الرئيسة لأسلوب همنغواي وما هي أهم تقنيّاته؟
في وسعنا إجمالها بما يأتي:
• السهولة: أسلوبُ همنغواي سهلٌ ممتنع. وهو من روّاد الأسلوبِ الواقعيِّ المُرسَل الذي حرّرَ الكتابة الأدبيّة الإنجليزيّة من التراكيب المعقّدة، ومن المفردات الصعبة والنادرة والحوشيّة والأنيقة، وانتقل بالكتابة إلى الألفاظ البسيطة والتعبيرات الواضحة. يقول همنغواي في كتابه ” الوليمة المتنقّلة”: “ولكن يحدث أحياناً أن أشرع في كتابة قصةٍ ما ولا أتمكّن من التقدّم فيها… أقول لنفسي: لا تقلقْ. لقد كنتَ تكتب دوماً من قَبل وستكتب الآن. كلّ ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملةً حقيقيّة واحدة…جملةً خبريّة حقيقيّة بسيطة…”.
• الاقتصاد في اللغة: يعبّر همنغواي عن الفكرة بأقلّ عددٍ من المفردات. وهذا ما جعل الناقد أنتوني برجس يقول عن قصة ” الشيخ والبحر”: ” إنّه نصٌّ لا يُضاهى. كلُّ كلمةٍ فيه ذات دلالة، ولا يوجد لفظٌ واحدٌ زائد.”
• عدم المبالغة: يترجم المرحوم منير بعلبكي، في معجمه الجيّد “المورد”، هذا المصطلح الإنجليزي بـ (التصريح المكبوت)، أي: “تصريحٌ مقصودٌ به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أضعف أو أقلّ مما تقتضيه الحقيقة”. ويقابل ذلك (المبالغة) أو (المغالاة ) وهو تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أقوى أو أكثر مما تقتضيه الحقيقة. وكأنّي بهمنغواي قد تعلّم عدم المبالغة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلَّب من المراسل الصحفيِّ أن ينقل الحوادثَ بنوع من الحياد، وعدم إضفاء أيّة عاطفة على الخبر.
• الحياديّة في السرد: وهذه الخاصّيّة ترتبط بالخاصّيّة التي سبقتها، أي عدم المبالغة، بل تعمّقها وتوضّحها. وتعني الحياديَّة في السرد نقلَ الأحداث ووصفَ الأشخاص بطريقةٍ شفّافة، مُجرّدةٍ من أية إيديولوجيّة، ومنزَّهة عن أيّة فكرة مسبقة. وكأنَّ همنغواي تعلّم الحياديّة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلّب أن ينقل الصحفيُّ الحوادثَ بنوع من الحياد، وعدم إضفاء عاطفة على الخبر، وعدم نقله من وجهة نظر سياسية معيّنة، كما ذكرنا، فالصحفي ليس هو المعلِّق على الأخبار. وهذا الأسلوب في الكتابة يسمِّيه رولان بارت “الدرجة الصفر للكتابة”، ويعني أن تكون الكتابة محايدة تماماً، مجرَّد أداة، يتخلّى فيها الكاتب إراديّاً عن كلّ لجوء إلى التزيين أو التزويق أو الأناقة في التعبير، والابتعاد عن الالتزام بأيّ موقف اجتماعيّ أو أسطوريّ للغة، بل أكثر من ذلك يُفضَّل عدم تعبير الكتابة عن جنس المتحدّث (ذكر أو أنثى) أو حالته (مفرد أو جمع)، ولا عن زمن الحدث (في الماضي أو الحاضر)، بحيث تكون أفضل أنواع الكتابة هي اللاكتابة، وأجمل الأساليب هو غياب الأسلوب. إنّه الحياد التام أو الصمت.
• اللغة الإشاريّة: الإشارة لا العبارة والتلميح لا التصريح: أو ما أَسماها نقّاد همنغواي بتقنيّة ( جبل الجليد) التي ابتكرها. فهو لا يكشف لك من الحقائق والمشاهد إلا جزءاً يسيراً ويترك الباقي لكَ لتُعمِل فيه خيالَكَ وتأويلَكَ؛ ولكلّ قارئ خياله وتأويله. فجبل الجليد في المحيط لا يظهر منه إلا قمّته الصغيرة، وعلى المُشاهِد أن يتخيّل ضخامةَ قاعدةِ الجبل المغمورة في الماء. وليست الإشارة التي يستخدمها همنغواي تقتصر فقط على الشكل (أي اللغة الإشاريّة)، وإنّما تمتدّ كذلك إلى المضمون (أي تفاصيل الحدث). كلمات موحية، ونقاط فقط من وقائع الأحداث، عليك أنتَ أن توصلها وتلونّها لتكتمل لكَ اللوحة.
• اللامباشَرية: أي أنّه يبتعد عن الأسلوب التقريريّ، ويتجنّب إعطاء القارئ معلوماتٍ أو استنتاجات أو حِكَم بصورةٍ مباشرة. إنّه يسرد الأحداث كما وقعتْ ليترك للقارئ فرصةَ استخلاص المعلومات أو النتائج أو الحِكم منها.
• إشراك القارئ في العمليّة الإبداعيّة: يتأتّى له ذلك باستخدام تقنيّات متعدّدة مثل طرح السارد أسئلة دون إعطاء الجواب عليها، بحيث يجد القارئ نفسه مطالباً بالإجابة عنها، أو استعمال ضمير المخاطب أحياناً في السرد ليُشرِكَ القارئَ في الحوار ويجعلَه طرفاً معنيّاً بالحوادث وما يجري في القصّة؛ أو ترك فراغات في النصِّ يميل القارئ إلى ملئها واستكمالها طبقاً لنظريّة الجشتالت.
وقد أمضى سنوات عديدة في التجريب ليتوصل إلى خصائص هذا الأسلوب. الذي أثَّر في الأساليب الإنجليزية وغيرها.
• اشتغلتم بالترجمة، في نظركم ما هي القضايا الأساسية التي يمكن الاهتمام بها في هذا المجال؟
إن ترجماتي وكثير من ترجمات غيري هي مجرَّد هواية، وليست ضمن خطة وطنية أو قومية لتحقيق التنمية البشرية في بلداننا. فقيام كاتب هاوٍ بترجمةِ كتابٍ من هنا وكتاب من هناك، عندما يحلو له وبمقدار ما يسمح به وقته، لا يترك أثراً يُذكَر في حركة التفاعل الثقافي الإنساني، كما أوضحت ذلك في كتابي ” الترجمة وأدواتها”. لا بُد من وجود مؤسَّسة ترعاها الدولة تعمل في ضوء خطَّة مدروسة لتحقيق النهضة المنشودة. فالنهضات الكبرى في تاريخ البشرية قامت على الترجمة، ويمكنني أن أذكر أربعة منها:
أ ـ حركة الترجمة إلى العربية في العصر العباسي الأول حينما أنشأ الخليفة هارون الرشيد دار الحكمة لترجمة فلسفة اليونان، وعلوم الهند، وآداب الفرس.
ب ـ حركة الترجمة الأوربية التي بدأت في القرن الرابع عشر لترجمة علوم العرب وآدابهم وتدريسها في جامعاتهم، وكانت من عوامل النهضة الأوربية.
ج ـ حركة الترجمة السوفيتية بعد نجاح الثورة سنة 1917 التي تُرجِمت خلالها آلاف الكتب العلمية الى اللغة الروسية.
د ـ حركة الترجمة الى اللغة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تُرجِمت فيها علوم الغرب وتقنياته، واستوعبها اليابانيون باللغة اليابانية، وصاروا ينافسون الغرب.
ولكن الترجمة إلى العربية في العصر الحاضر، كسيحة لا ضرورة لها، لأن جميع الدول العربية تدرّس العلوم والتقنيات بلغة أجنبية، هي عادة لغة المُستعمِر القديم: الإنجليزية في المشارق والفرنسية في المغارب. وهكذا بقيت العلوم والتقنيات أجنبية غريبة ولمستوطن بلداننا التي بقيت محطات لسياحة الغربيين، وليس للإنتاج والزراعة والتصنيع. والترجمة، في مفهوم اقتصاد السوق، سلعة من السلع تخضع لقانون العرض والطلب. لماذا نترجم كُتباً علمية وتقنية إذا كنا ندرس العلوم والتقنيات باللغة الأجنبية؟
يتبع
تعليقات الزوار
أكثر من رائع..مفيد جدا، منور للفكر ومغذي للمعرفة.. هذا الكاتب من أروع الهدايا إلى المكتبة العربية والثقافة العربية.