وجهة نظر

الأزمة الأخلاقية للقانون عند “طه عبد الرحمن”

استعمل “اوغست كونت ” مفهوم “الوضعية” للدلالة عن منهاجه العلمي الخاص، وقد اشتق هذا المفهوم من الاتجاهات الفلسفية التي شكلت مناخ القرن التاسع عشر. وقد عمد فقهاء القانون – تحت تأثير الروح الفكرية السائدة -إلى بناء نظرية قانونية على أسس علمية جديدة، تقوم على تخليص القانون من كل الاعتبارات الأخلاقية، في استقلال تام للقاعدة القانونية عن الأخلاق.

ونتج عن تبني هذا المنهج العلمي الوضعاني الذي يرفض الغايات الإنسانية والأخلاقية في القانون، ظهور” النظرية الخالصة للقانون” للفقيه النمساوي “هانس كلسن”، التي تجعل القانون مؤسسا على الفصل بين أحكام الواقع وأحكام القيمة، أي الفصل بين القانون والأخلاق، بانحياز تام للنموذج المادي النفعي، وفي تجافي عن القيم الروحية والأخلاقية، وعن روح القانون ومقاصده، حيث أصبح الفعل القانوني والقضائي عبارة عن نسق جامد ومنغلق، مكرسا بذلك الظلم بدل العدل. الأمر الذي ترتب عنه حدوث أزمة في العقل القانوني المعاصر.

وقد تفطن لهذه الأزمة القيمية للقانون مجموعة من العلماء المعاصرين، وكان من بينهم الفيلسوف “طه عبد الرحمن” الذي حاول في طرح فكري عميق الإسهام في تفكيك هذا الإشكال العويص الذي تحول إلى شبه أزمة شاملة عند المعاصرين، وقد طرح طه في سبر أغوار ذلك تساؤل محوري، هو: كيف يمكن أن يزدوج الإلزام القانوني بالإلزام الأخلاقي؟ بحيث تصبح مبادئ الأخلاق الخاصة قادرة على أن تسد ثغرات القوانين العامة؟ فاعتبر الفصل بين القانون والأخلاق فصلا باطلا. وقدم، بموازاة ذلك، مقاربة نقدية تقويمية لمنطق القانون الوضعي وأصوله، وذلك عبر طرح سؤال القيم والبحث عن منزلة المباحث الأخلاقية في المنظومة القانونية الوضعية.

فما هي أهم معالم المجهود الفكري لطه عبد الرحمن الرامي لتجاوز ثغرات الفصل بين أحكام الواقع وأحكام القيمة في القانون الوضعي وفي أصوله الفكرية والفلسفية؟ وما هي المنزلة الطبيعية للمباحث الأخلاقية والقيمية في المنظومة القانونية الوضعية من وجهة نظر طه عبد الرحمن؟

أدى الحرص على استقلال القاعدة القانونية عن الأخلاق إلى تحريف القانون عن أهداف الإنصاف، مما دفع “دينيس لويد” إلى اعتبار “أن مشكلة القانون البشري الذي يضعه الإنسان، والذي يسميه الفقهاء بالقانون الوضعي، مرتبطة بنظام القيم الذي يعطي لحياة الإنسان معناها، وهدفها، ويعطيها صفتها الإنسانية”.

ولقد أدى اعتماد معظم المدارس القانونية، على نظرية المنفعة كمقصد أساسي للقانون، إلى جعل الحضارة الغربية تغلب النموذج المادي النفعي، البعيد عن القيم الروحية والأخلاقية، حيث أن المصلحة المستهدفة في القانون ــ حسب محمد سليم العوا ــ ”مصلحة مادية نفعية بحتة”، وهي تهدف بالأساس إلى تحقيق استقرار المجتمع، وانتظام معاملاته، وأمور علاقاته، وبخاصة المادية منها، ويصبح، بالتالي، تصور القانون الوضعي لعلاقة الفرد بالمجتمع قائم على اعتبارها علاقة مادية صرفة، وينظر الى هذا الفرد باعتباره كائنا ماديا خالصا.

وقد تبنت كل النظريات الوضعية فرضية الانفصال بين أحكام الواقع وأحكام القيمة، أي بين القانون والأخلاق، وهذه الفرضية تدعي بأن مفهوم القانون يجب أن يُعرّف بحيث لا يتضمن في محتواه عناصر أخلاقية. والتجلي الواضح لهذا الفصل، هو تبني النظرية الخالصة للقانون، التي تطمح إلى تخليص النظر القانوني من أية إحالة إلى أحكام القيمة ومن أية إحالة إلى ماله تعلق بمفهومي ”العدالة” و”القانون الطبيعي”. ونتج عن هذا التبني تحول الفعل القضائي إلى فعل إخباري، حيث يقتصر دور القاضي في الإخبار والتبليغ عمّا هو قانوني (إرادة المشرع)، وذلك عبر تطبيق النصوص القانونية، الأمر الذي يجعل من المنظومة القضائية نسقا جامدا، منغلقا.

ولهدم هذا التصور المادي والجامد لأصول القانون في صورته الغربية، ينطلق “طه عبد الرحمن” في محاولته تشخيص أزمة العقل القانوني الوضعي المعاصر ،من اعتبار أن الأخلاق لا تختلف عن القانون، وأن القانون في أصله هو تقنين للأخلاق، وتشريع لقيم أخلاقية، بعضها متحقق وبعضها مرغوب في تحققه، وينتقد “طه” الفصل المفصلي في الحضارة الغربية بين القانون والأخلاق، والذي بموجبه يمكن الاستعاضة عن الأخلاق بالقانون، ويعتبر هذا الفصل باطلا، لأن الوقائع التي يوضع لها القانون هي وقائع خلقية، حيث أن القانون أخضع بعض هذه الأخلاق للجزاء بحيث يعاقب مخالفها، ولا يثاب فاعلها، لكن هناك وقائع أخلاقية لم يدخلها المجتمع الغربي في باب الجزاء، فبقيت تحتفظ بصفتها الخلقيةـ ودليل” طه “في هذا الأمر أن ما يعتبره المجتمع الغربي أخلاقا خاصة، يعتبره المجتمع المسلم من أحكام الدين، بمعنى أنها تخضع للقانون الفقهي( كتاب الحوار أفقا للفكر)

ولإبراز انحرافات المقاربة الوضعية والمنفعية للقانون بصورته الغربية، يؤكد “طه عبد الرحمن ” أن العقل الغربي قد تصرف تعسفيا عندما انتقى بعض الأخلاق ووضع لها أحكاما ملزمة، وترك أكثرها بحجة أنها لا ترقى إلى رتبة القانون، وتبقى خيارا خاصا للأفراد، بمعنى أن الترسانة القانونية لم تنقل تلك الحقوق الأخلاقية التي يمتلكها الأفراد بوصفهم كائنات أخلاقية -حسب الفيلسوف الأمريكي “رونالد دووركين” ، من مجال الحق المجرد إلى مجال الحق الفعلي من خلال القانون.

وفي سعيه لحل معضلة صناعة القانون والتطبيق العقلاني له ، يرى فيلسوفنا طه” “أن المطلوب من القانون، أن يضع القواعد القانونية وفق قيم أخلاقية محددة، بحيث يكون مقوما للمسالك وموجها للمطالب”، لكن يردف بأن هذا التصور غدا اليوم مهجورا، “إذ صار يطلب من القانون أن يكتفي بتكريس الوقائع، ويقف عند حدود الاستجابة للمطالب وغدا المشرع يستسلم للأمر الواقع، مكتفيا بتقريره لا متعاطيا لتصحيحه”(روح الحداثة)، الأمر الذي يجعل القواعد القانونية عاجزة عن إظهار الحق، حيث يصبح القرار القضائي عملية حسابية تجميعية ،أي مجرد نتيجة لحسابات الربح و الخسارة، وذلك من خلال إحالات فردية جزئية للمصالح و المنافع على حساب مبادئ العدالة والإنصاف ومن ثمة يُختزل القانون في المدرسة الوضعانية بكونه مجرد قواعد صارمة لا تبالي بالمبادئ التي ينبغي تمييزها وإبراز وتأكيد علويتها.

ولتأكيد التأثيرات السلبية لإهمال القيم ضمن المنظومة القانونية الحديثة يقوم طه عبد الرحمن بمقارنة بين الحكم الشرعي والحكم القانوني الوضعي، فيعتبر أن هناك أحكاما شرعية تخدم الإنسانية أكثر من الأحكام الوضعية التي وضعها العقل البشري المجرد، ويبين أن العقل الإنساني لا يفتأ يقف في كل طور من أطواره على منفعة هذا الحكم الشرعي أو ذاك، وعليه ،يؤكد فيلسوفنا “طه” ” أن الحكم الوضعي حكم عقلي منقوص، لم يكتمل تطوره حتى يصل إلى أن يكون حكما مطابقا للحكم الشرعي”( الحوار أفقا للفكر)، وهذا راجع إلى إقصائه للأخلاق التي هي ــ حسب “طه” ــ الجانب الذي يتجلى فيها معقولية الأحكام إذ ” الأخلاق هي عقل الأحكام” أو ”عقلانية الأحكام في قيمها الأخلاقية”( دين الحياء)، فالقيم و المبادئ و المقاصد هي التي ينبغي أن تُطلب عند كل عملية تنزيل للنص القانوني على الوقائع، و ليس فقط تطبيق القواعد الصارمة كما هو الأمر مع النزعة الوضعية طبقا للنظرية الخالصة للقانون لدى “هانس كلسن”، أو مجرد تحقيق للمنفعة الفردانية، دون أي نظر إلى قيمة الغاية التي ينبغي تحصيلها، وفق المبدأ المشهور لمؤسس المذهب النفعي الفيلسوف “جيرمي بنتام” المنتظم في مقولة: “أكبر سعادة لأكبر عدد”.

ولبيان مركزية البعد الأخلاقي في المنظومة القانونية، يقارن “طه ” بين قوة حكم القانون وبين قوة حكم الأخلاق، حيث يعتبر أن هناك فرقا شاسعا بين الحكمين، وذلك للاعتبارات التالية:

أولا: أن القانون على انضباطه أضعف من الأخلاق على عدم انضباطها، ويفسر هذا المعطى بكون القانون لا يضبط إلا الظاهر بينما الأخلاق تضبط الباطن الذي هو أساس الظاهر.

ثانيا: أن القدر من الإنسانية الذي يدركه الفرد بواسطة الأخلاق الحية، لا يدركه بواسطة القانون الجامد.

ثالثا: أن القانون، مهما بلغ في الإحاطة في حيثياته يبقى ناقصا، لا يوفي بحاجة الفرد في تجدد مطالب سلوكه التي لا يوفي بها، إلا تحصيله على ملكة أخلاقية قادرة على الإبداع. (روح الدين).

ويتحصل، انطلاقا من هذه المقارنة، أن أي نظام يضبط السلوك الإنساني، يجب أن يهتم بالمعايير العامة والقواعد والأحكام التقنية المستمدة من المبادئ الأخلاقية التي تمليها، وهذا هو المعنى الحقيقي والأسمى لحكم القانون.

ويترتب، بالتالي، عن هذا الاعتبار المركزي للأخلاق في السلوك الإنساني، أن عملية تنزيل القانون من القاعدة القانونية إلى حكم النازلة، يجب أن يتوخى الانتهاء إلى حل يحترم المشهور من القيم والمعمول به من القوانين والشرائع، تحقيقا للتوازن بين المقتضى الخُلُقي والمقتضى القانوني للأحكام، وذلك بغية ضبط المصالح المختلفة التي تحضر في مختلف النزاعات والخلافات المعروضة على الفقه والقضاء (حمو النقاري، من أجل تجديد النظر في علم أصول الفقه من خلال منطق القانون).

وعليه تصبح الصورة القانونية السليمة، من وجهة نظر طه قائمة على الوصل بين البنيتين القانونية والأخلاقية وذلك عبر ”تأسيس القانون على الأخلاق” وعلى ”تسديد الأخلاق بالقانون’‘(سؤال المنهج)، مع اعتبار المقتضى الأخلاقي أصلا والمقتضى القانوني فرعا.

علة سبيل الختم، إن الاجتهاد الذي قام به طه عبد الرحمن يدعونا إلى معاودة النظر في القانون الصناعي التقني، الذي يشتغل بالصيغ القانونية الجامدة الصارمة، دون الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد القيمية والمقاصد، ومن ثمة تقع مآسي كثيرة باسم القانون نظرا لوقوعها في مأزق العدالة التقنية البعيدة كل البعد عن تحقيق العدالة الشاملة أو التوزيعية بتعبير فيلسوف العدالة الأمريكي جون رولز. لذا تدعو أفكار طه عبد الرحمن إلى تأسيس ما يمكن أن أعرّفه بـ “القانون الحيّ” المبني على الوصل بين الضوابط التشريعية والأخلاقية والمنطقية، والذي من شأنه أن يعطي سلطة أكبر للقاضي في الملاءمة بين النصوص القانونية وبين مختلف القيم الإنسانية الكبرى.

*باحث في الفكر الإسلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *