منتدى العمق

سلطة القيم في عالم ما بعد كورونا

مما لا شك فيه أن الجائحة الصحية سنة كونية عرفتها البشرية منذ القدم وعادة ما تتبعتها ارتدادات كبرى وتغيرات عميقة تمس جوانب عدة من حياتنا على كوكب الأرض، ومما لا شك فيه كذلك أن جائحة كورونا لا تشذ عن هذه القاعدة لذلك يمكن القول إن عالما جديدا يتخلق الآن في رحم هذا الوباء الذي شكل صدمة حضارية لم تعرف لها البشرية مثيلا منذ الحرب العالمية كشفت عن كثير من الاختلال ليولد بعد انكماشها وانكشاف غيمتها عالما آخر تخلى عن أطروحات ومفاهيم قديمة ليفسح المجال إلى التجديد والمراجعة وكذلك التصحيح .

ولعل من المجالات التي ستعرف مراجعات ورجات بنسب متفاوتة هو مجال القيم الذي يعد منظومة أخلاقية تحكم العلاقات بين الأشخاص .و قد عرف بعضها تراجعا في عالم ما قبل هذا الوباء لكنه عاد لها أوارها إبانه نتيجة الحاجة إليها والتي يمكن بيان بعضها فيما يلي :

1- التوازن بين رغبات الفرد ومتطلبات الجماعة : إن قيمة ما عرف بالفردانية بات اليوم محط تساؤل ومراجعة فلا يمكن لهذه القيمة أن تظل متغولة في زمن ما بعد كورونا بحمولتها المعرفية السابقة من مبالغة في الخضوع إلى نزوات الفرد ورغباته حتى وإن تصادمت مع رغبات الجماعة بل لابد من إرجاع بعض التوازن بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة ولابد لهذا الفرد أن يندرج اندراجا يحفظ له كرامته وحقوقه ويلزمه كذلك باحترام جماعته وأداء واجباته تجاهها دون أن يغمط ما تم التعارف عليه أو تصادمه . وقد تبين لنا في زمن هذا الوباء كيف أصبح الفرد مسؤولا عن أسرته ومجتمعه فبتعرضه إلى أسباب الوباء فإنه لا يؤذي نفسه وحسب وإنما ينقل العدوى إلى الآخرين في شكل تسلسلي، وهذا نموذج من نماذج أخرى عديدة .

2- الرحمة : وهي من أجل القيم الحاكمة بين البشر التي نصت عليها الشرائع السماوية لكنها عرفت ضمورا كبيرا في ما قبل حلول الوباء وقد آن الأوان أن تتجدد مفاهيمها ليعود لها ثقلها القبمي في دنيا الناس إذ مصير البشرية مشترك فالفيروس لم يفرق بين الدول ولا بين غني أو فقير فهو عادل في توزيع آثاره ، وبذلك رج ضمير الإنسانية رجا ونبههم إلى فئة المهمشين وساكني الشوارع الذين أصبحوا أكثر عرضة للوباء وخيف أن يشكلوا بيئة خصبة لمزيد من انتشار الفيروس وتقويه وكأنه نزل بردا وسلاما على الفئات المنسية فرأينا كيف تحركت بعض الدول ومعها المجتمع الأهلي لإيوائهم رحمة بهم ورحمة بمجتمعاتهم من الوباء

. ولابد من تثمين هذه القيمة ورفع رصيدها حتى تصبح شائعة كقيمة إنسانية بين البشر جميعا ليكف مشعلو الحروب والمستأثرون بالثروات عن تهورهم وليتنبهوا أن مصير البشرية على كوكب الأرض واحد .

3- الاعتدال في الإنفاق : لم يكن الحجر الصحي كله نقمة لكنه حمل إيجابيات عديدة من أبرزها التخلي عن كثرة التبضع وارتياد الأسواق وعلمنا وتبين لنا أنه بإمكاننا الاستغناء عن فضول الأكل واللباس وبإمكاننا ترشيد الاستهلاك في حدود ما يضمن التوازن بين دخل الفرد وحاجته وأن ما كنا نستهلك ونحن في غمرة سكرات جشع الرأسمالية المشجعة على هذا الاستهلاك إنما هو زائد عن حاجاتنا وأنه بإمكاننا صنع طعامنا دون حاجة إلى المطاعم العابر للقارات ولعل جرس الإنذار قد دق بقوة محذرا من هدر كميات الطعام التي بلغت حد الجنون والذي نجم عنه التلوث البيئي واستنزاف خيرات الطبيعة إلى حد التدمير.

4- التضامن : فقد ركبنا في سفينة كورونا مرضى وأصحاء فكان علينا أن نحمي بعضنا بعضا وإلا هلكنا جميعا. وقد رأينا تضحيات الصف الأول من أطباء وممرضين وطواقم طبية وحتى حفارو قبور المتوفين بهذا الوباء وتجلت لنا فيهم روح التضامن والتضحية وبذلك ارتفع رصيدهم القيمي .

5- العلم: نبهت كورونا الغافلين عن هذه القيمة أن العلم ليس ترفا وإنما حاجة ملحة يجب أن يتنافس فيها المتنافسون من أجل إنقاذ البشرية من الهلاك وأكيد أن العديد من الدول ستراجع حساباتها مع الأبحاث العلمية التي يجب أن ترصد له الميزانيات الضخمة بدل من هدرها في مجالات وهمية لا تسمن عائداتها ولا تغني من جوع ساعة الحاجة إليها .

6- الجودة أو الإحسان : مما لوحظ زمن الوباء ارتفاع الإقبال على المحتويات الرقمية الهادفة التي تعالج المشاكل النفسية والتوترات الطارئة نتيجة هذا الوباء أو تلك التي ترتقي بالمعرفة وتغذي الروح والعقل ، وإني لأرجو أن تظل هذه الجودة مسيطرة على المجال الرقمي ويمتد سلطانها ليشمل القنوات التلفزية لتتراجع المحتويات التافهة التي عششت زمنا ليس بالهين حتى توهمت أنها الأصح والأبقى إلى أن باغتها طوفان الجائحة فأيقظتها من غفوتها السادرة فمد جسوره الخيرة ونفى بذلك كل دخن ملوث للسمع والبصر ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) المركزة بالأساس على الترفيه حد الإدمان .

وختاما يمكن القول إن جائحة كورنا رغم ما خلفته من آثار سلبية على حياتنا فقد كشفت الحجب عن كثير من القيم ونفضت عنها آثار النسيان وبينت حاجتنا إليها زمن هذا الوباء لذلك علينا أن نراجع حساباتنا معها وأن نتدافع التدافع السلمي الذي يضمن لها الاستمرارية والبقاء في عالم ما بعد كورونا الذي لا مناص له من التغير والتبديل .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *