وجهة نظر

صناعة العنصرية في أمريكا

لا يمكن لأي قانون مهما كان صارماً أو مَرِناً أن يحكم المجتمع ويقيه شر بعضه البعض، ما لم يدمج القانون الوضعي، بقانون الدين وتعاليمه، ويكون له حظه الوافر في تربية وتنشئة الأجيال على مبادئ الدين وقيمه وأخلاقه.

وستظل البشرية في عمياء وتيه في البحث عن الأنفع والأجدى ما لم تهتدي إلى قانون الدين وقيم السماء هداية عملية تطبيقية له في الواقع العملي للناس، حتى تُرْجِع له اعتباره الحقيقي ومكانته الحقة في نفوس أبناء المجتمع، وتَحْتَكِم إلى مبادئه السمحة، في تسيير شؤون الحياة في جميع المجالات.

ستبقى تصرفات الناس طائشة عدوانية لا ترعوي، وسلوكهم مدمر لا يتوقف، وإنجازهم غباء وحضارتهم في تخلف وتدمير لإنسانية الإنسان، واندحار به نحو دركات البهائم، ما لم يلتفتوا إلى التكريم الإلهي للإنسان، ويعملون على اتباع قانون الدين الإلهي الصافي النقي الذي تدل عليه سنن الكون وآيات الوحي.

ولعل ما تعيشه أمريكا من جحيم العنصرية التي طفحت على السطح بهذه الأحداث الأخيرة خير دليل على غياب قانون الدين الإلهي الذي ينفذ إلى أعماق الإنسان فيعالجها، بتنظيف الأنانية الحارقة من داخله، ويجعله يشعر بالطمأنينة الداخلية في تعايشه مع كل الناس من حوله، ويصبغ عليه نعمة التسامح والمحبة للآخر أياً كان هذا الآخر.

إن لهيب العنصرية الحارق في أمريكا نتيجة طبيعية لغياب الدين في الواقع وفي الأنفس، وإن كان حاضرا في أسوءِ صوره خاصة في التحالفات والحروب والعدوان على الأمم، أو في سياسة ماكرة لأجل الخداع واكتساب بعض التأييد الانتخابي، للحفاظ على الشهرة، وإن كانت على جثث كرامة الإنسان وحريته في الاختيار.

إن الديمقراطية الصورية التي تمارسها النخب السياسية في أمريكا على الشعب المحترق بنيران العنصرية والمخدرات، لا يمكن أن تؤتي أكلها في بناء المجتمع الإنساني الأمريكي، ما لم يتم العناية الفائقة بالأجيال الصاعدة في تربيتهم على قيم التعايش والتسامح الواقعي، والمساواة بين جميع أبنائه والدعوة إلى فك قيود الطائفية، وتفتيت أسباب العنصرية، ودمج مكوناته الاجتماعية في نظام المساواة والعدل الاجتماعي دون تمييز مادي أو معنوي، والتشجيع على الاندماج والمصاهرة بين الأجناس والتقارب بينها، ولعل هذا النظام الإدماجي المتكامل لا يمكن أن يؤطره ويؤتي ثماره إلا بقانون السماء وفلسفة الدين الحق.

إن القانون الوضعي قوالب جامدة تضبط الظواهر في أحسن الأحوال، ومعلوم أن سلوك الإنسان وفعله إنما يؤطره الباطن، ويُحَرِّكُه الوجدان، وتَتَحَكَّم فيه الرغبات الكامنة في الإنسان، وليس هناك من حل ناجع لضبط الباطن إلا حكمة الدين وقانون الإيمان بالغيب والوعد والوعيد الإلهي، والتحفيز بوعد الجنة والزجر بوعيد النار، إذ الإنسان متشوف إلى ما بعد الموت وما يقع في الدار الآخرة، من حساب وجزاء، فلا يمكن أن يقنعه بالتحكم في وجدانه ورغباته وشهواته إلى ذاك.

وما بعد الموت لا سبيل إلا العلم به إلى الدين الصحيح والوحي الصادق، وليس هذا تعيين لدين معين، بقدر ما هو بحث فيما يطمئن له قلب كل شخص، ويعتقده من غيب ينجيه من جحيم العدوان ويقوده إلى مرافئ السعادة في دنياه من غير تفريط فيما بعد موته، إن شاء أو على الأقل يحفظ به أخلاق التعامل والتعايش والتسامح، ويهذب سلوكه ويزن تصرفاته بميزان الإنسانية.

إن أمريكا اليوم ومن خلفها العالم الغربي الذي بنى حضارته على ساق واحدة مع بتر الأخرى، لن يستطيع أن يواصل حضارته وتحضره في البناء والعمران من غير القيم والأخلاق التي تعطي للإنسان معنى في الحياة، وتعطي لهذه الحياة معنى في الإنسان، وتجعل للعمران قصدا وحكمة.

أما بناء الإنسان الآلي بقوانين جوفاء وتقدم مادي محض على حساب الروح والمعنى وكينونة الإنسان الجوانية، فلا تفيد في شيء، وطبيعي أن يتولد عنها الصراع العنصري والخراب العمراني وازهاق الأنفس وتدمير البنى المادية والثقافية التي أسفرت عنها التصرفات العنصرية بين البيض والسود، وهذه الثقافة التي لا تمثل في اعتبار الدين مثقال ذرة ولا أقل من ذلك ولا أكثر، وإنما هي الجهل المطبق، والثقافة الخرقاء؛ التي تجعل من الحضارة المدنية المعاصرة ريشة في مهب ريح عاصفة.

كما أن أدنى تمسك بالعقل أو إعمال له في أدنى مستوياته، ندرك من خلاله بشكل واضح أن لا أحد من السود أو البيض اختار لونه أو نسبه أو عرقه بمحض إرادته أو كسبه وإنما هو مُجْبَر عليه أحب أم كره رضي به أم لا.

أما فطرة الجمال وفلسفة الخِلْقَة فإنما تقتضي في أبجدياتها الأولى أن السواد والبياض ليس معياراً للجمال أو القبح، وإنما هو انطباع وآية من آياته من غير تحديد إذ النفس والطبع هما مدركات الجمال، وهما يختلفان من شخص لآخر، فواحد يدرك من خلال السواد من الجمال ما لا يدركه الآخر، وآخر يدرك من خلال البياض من الجمال ما لا يدركه غيره، ولا يعتبر أن الجمال حكر في لون أو شكل أو نسل..

والحق أن كل لون أو شكل لبنة في تشكيل الجمال ولو اختفى أحدها لصار نقصا في الجمال نفسه، ولتطرق إلى نفوس الناس الملل والسآمة، والاشمئزاز من الاعتياد على أمر واحد، ومن هنا يكون جمال الأبيض في الأسود، وجمال الأسود في الأبيض، وجمال متوسط القامة في طويلها وقصيرها والعكس صحيح، ولعل هذا من فلسفة الحديث النبوي: “أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى” [أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح] فالمدح والذم لا يتعلقان بعين الأشياء المادية بل بالاعتياد عليها، أو تنوعها، فالأشياء بضدها تتميز وبمقابلاتها تدرك وباختلافها تمدح وتحبب للنفوس وكل ذلك معيار الجمال ومدركاته، إذ لولا هما معا ما أدرك الحسن في أحدهما..

ومن العبث والحمق تعيير الناس بما لا دخل لهم فيه من آبائهم وألوانهم وأشكال أجسادهم؛ فتعييرك الشخص بالقصير أو الطويل أو الأسود أو الأبيض.. -بأشياء لا دخل له فيها- لا معنى له عقلا ولا يستساغ شرعا إذ لا قيمة لذلك ولا مرد له ولا دخل للمرء فيه.

وإنما يكون ذلك معتبرا لمن كان له يد في ما اختاره وذهب إليه واكتسبه بغير إكراه أو اضطرار، وعليه فالعنصرية مذهب البلداء الضعفاء الذين سيطر عليهم الجهل وأعمتهم الأنانية، وسيطر عنهم التخلف الأخلاقي، فتكون أشبه بمذهب اللامعنى، وحياة العبث، وتصرف الحمقى، وثقافة المجانين، والعنصرية العرقية ما هي إلا تردٍ في دركات أسفل وأسفه وأرذل الكائنات، وليس وراء خرابها خراب لكيان المجتمع ولحمة الوطن.

ولا علاج لها في الحقيقة إلا بثقافة الدين والرسالات السماوية السمحة وقيم الإيمان بالغيب والحساب والجزاء، وغائية ما بعد الحياة الدنيا، ولذا نجد الوحي الإلهي يركز بشكل أساس على الرقابة الذاتية للناس والقيم الإنسانية المشتركة والتضحية والصبر والنصح والتسامح كما يركز على التقوى وتجنب الرذائل ومراقبة الله وإخلاص كل التصرفات له.

فالدين الذي يبني في الإنسان إنسانيته ويوجهه للحفاظ على كرامته ووحدة تميزه الإيجابي عن كل ما سواه من المخلوقات، إنما بنى قاعدته الأساسية على القيم الأخلاقية، كما في الحديث النبوي الشريف: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى” [أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح]

وكما في قول الله جل ثناؤه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” [سورة الحجرات الآية 13]، حيث بينت الآية وحدة أصل الخلق، وقصد الجعل للتعارف وتزكية التعاون والمحبة والتعايش والتكامل لتحقيق مقصد أكبر هو جوهر إنسانية الإنسان وهو حفظ كرامة الإنسان، ولن تتأتى إلا بتقوى الله وحده لا شريك له إخلاصاً، وذلك لتنمية الرقابة الذاتية في الناس كل على حدة، ولذلك قال في آخر الآية “إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”
وكما في قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” [سورة الرعد الآية 11]، ولا شك أن ما بالنفس يبدأ بجزئي في آحاد الأفراد ثم يتكاثر ويقوى حتى يحدث تغييراً سلبياً أو إيجابياً، وهذا لا يكون إلا بالرقابة الذاتية والتقوى بمعناها العام.

ولعل هذه الرقابة العليا لله وحده هي التي تزكي في الناس الرقابة الذاتية لكل تصرفاتهم الظاهرة والباطنة الخاصة والعامة، فيحصل التغيير الإيجابي والإصلاح الاجتماعي العام، ولن يتغير سلبياً إلا بردة عكسية تبدأ بالفرد فينتشر المنكر وتكثر الفواحش الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. كما في قول الله سبحانه: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [سورة الأنفال الآية: 53].

فالتقوى هي المعيار الأساس لإحداث التغيير الإيجابي، والرقابة الذاتية أو خشية الله -في السر والعلانية- هي معيار الاستمرارية

وليس هناك أدنى تفاضل بين الناس إلا بالتقوى والرقابة الذاتية للاستمرار في إنتاج مكارم الأخلاق والمحافظة عليها، فأتقى الناس أنفعهم للناس، والتقي من سلم الناس من أذاه، والكريم من احترم في الإنسان فطرته وإنسانيته، وسعى إلى تحقيق كرامته، وشَكَّل من نفسه وعاءً للأخوة الإنسانية، بالعدل والانصاف والحكمة البالغة، فالإنسان حقاً لا يسعه إلا أن يكون وعاءً لمحبة كل الكائنات من حوله بالاحترام والمودة والأخوة؛ أخوة الإنسان مع سائر المخلوقات والكائنات وأخوته مع كل الناس أخوة آدمية وإنسانية، وأخوته مع أهل وطنه وأقاربه وأصدقائه أخوة في الدين أو الوطن أو المصاهرة أو النسب والقرابة.

وهكذا أَحْكَم الدين الإلهي علاقة الإنسان بكل من حوله بالعدل والحكمة والرحمة لتحقيق التعايش؛ في ظل الحفاظ على إنسانية الإنسان، وبهذا يكون الدين الحق نافع وصالح لكل الناس، ورحمة بكل الناس، وشفقة على كل الناس، كل ذلك حسب قربهم وبعدهم منه وإيمانهم به أو جحودهم له، وأكثر الناس انتفاعا بالدين المؤمنون به حقاً وصدقاً وإخلاصاً.

* رئيس مركز بحث للقيم والدراسات المعرفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *