وجهة نظر

بوادر الانتقال من أزمة كوفيدية إلى أزمة تشريعية

من خلال قراءة في مقترح قانون”المادة 574 مكررة” القاضي بتتميم الكتاب الخامس من القانون رقم 15.95 المتعلق بمدونة التجارة كما تم نسخه وتعويضه بموجب القانون رقم 73.17 الصادر بتنفيذه ظ.ش رقم 1.18.26 بتاريخ 2 شعبان 1439 (19 أبريل 2018).

يتعلق الأمر بمقترح قانون ومن أهم خصائص القانون أن تكون قواعده قواعد عامة ومجردة، وهذا ما يميزها عن الحكم القضائي والقرار الإداري. وخاصية التجريد لا تتم بموجبها مخاطبة شخص بذاته ولا واقعة بعينها؛ حيث تنشأ مجردة من كل وصف، لتطبق عند توافر شروطها. وخاصية العمومية في القاعدة القانونية تقتضي أن تطبق على كافة الأشخاص المكلفين بها، وعلى كافة الوقائع في إقليم الوطن، وعلى كافة العلاقات القانونية من تاريخ صدور القانون. وبعبارة أخرى، فإن خاصيتي العمومية والتجريد تتطلبان مخاطبة الأفراد في المجتمع بصفاتهم لا لذواتهم ولو كان المخاطب شخصا واحدا كما هو الحال بالنسبة لرئيس دولة أو رئيس حكومة. كذلك الأمر بالنسبة للوقائع القانونية فهي معنية بشروطها لا لذاتها.

ويتحدث مقترح القانون عن كوفيد 19 بتسميته هذه لا بتكييفه القانوني لها الذي يبحث في خصائص الشيء وآثاره. وبالتالي ألا يمكن بالمنطق نفسه تبرير إمكانية إجراء مقترح قانون آخر أو موازي يتم فيه ذكر اسم شخص باسمه كَ”زيد” مثلا، طالما أحدث هو الآخر أزمة اقتصادية من قبيل ما أحدثه كوفيد 19؟ أفلا يقود هذا السلوك، في التعامل مع القواعد القانونية، إلى تقويض أهم خصائصها المتمثلة في العمومية والتجريد؟

ولما كان كوفيد 19 سببا في إنزال مقترح هذا القانون، فهل يعني ذلك أنه كلما ظهر فيروس آخر إلا وواكبه تعديل قانوني آخر؟ ألا تؤدي هذه المسألة إلى عدم ثبات واستقرار القاعدة القانونية، مما قد يحدث معه حالة اللاأمن القانوني ويؤثر سلبا على استقرار المعاملات؛ اعتبارا لخاصية التطور والتجديد والاسترسال في صفة الفيروسات؟ والدليل على ذلك أن مقترح القانون نفسه حدد مدة تنفيذ مخطط إنقاذ المقاولة في ما لا يتجاوز سنة على الرغم من أنه سمح بتمديها باتفاق بين المقاولة والدائنين كلهم أو بعضهم، خلافا للمادة 571 من القانون الحالي التي جعلت هذه المدة تصل إلى خمس سنوات، مع العلم أن التمديد المتحدث عنه في مقترح القانون يتميز بالإبهام؛ لعدم معرفة كم مرة يمكن فيها إعمال التمديد؟ ثم كم مدة كل تجديد؟ وما السقف الإجمالي لمدة تنفيذ المخطط ابتداء من تحديدها أول مرة إلى غاية انتهائها؟ ويبدو كذلك، من خلال هذا التحديد الزمني أن مقترح القانون لم ينتبه إلى ضرورة التمييز بين مدة بقاء كوفيد 19 وبين مدة بقاء آثاره التي قد تمتد إلى عدة سنوات. فهل يبدو معقولا حينها التشبت بمخطط الإنقاذ لمجرد أن المشرع أعطى مكنة تمديد تنفيذه؟ أم أن واقع الحال يتطلب إعمال مسطرة التسوية القضائية ولما لا التصفية القضائية؟ لأن العبرة في مساطر صعوبات المقاولة ليست في ذاتها بل في غاياتها.

ثم ألم يكن من الممكن ربط مقترح القانون بالتكييف القانوني لهذا الفيروس بدل الفيروس نفسه؛ حتى يمكنه احتواء جميع حالاته المتطورة أو المشابهة والتي يمكنها أن ترتب الآثار الاقتصادية السلبية نفسها؟ وبذلك، يمكن استحضار نظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة والحادث الفجائي؛ وهي مفاهيم شائعة الاستعمال قانونيا، ويمكنها أن تحتوي ما يسمى بكوفيد 19 وغيره من الوقائع التي تشبهه علةً وآثارا. ثم ألم يكن كافيا الاستئناس في ذلك بالقواعد العامة في القانون المدني الذي يتحدث في أكثر من موقع عن القوة القاهرة والحادث الفجائي؟ خصوصا وأن القانون المدني يعتبر مصدرا للقانون التجاري بصريح المادة 2 من م.ت التجارة التي يُعتبر مقترح المادة 574 مكررة أحد مواضيعها، أو من خلال الرجوع إلى الاجتهاد القضائي الذي اعتمد في تعليل قراراته على نظرية الظروف الطارئة على الرغم من الفراغ التشريعي الذي صاحب الواقعة.

ومن هذا المنطلق، يمكن إدخال كوفيد 19 في إطار القوة القاهرة متى تحققت شروطها التشريعية المتمثلة في عدم التوقع وعدم القدرة على الدفع ثم ألا يكون للمدين دخل في إثارة القوة القاهرة، أو إدخاله في نطاق الظروف الطارئة متى تحققت شروط تطبيقه المتجلية في وجود التزام تعاقدي يربط بين الطرفين ومتراخي التنفيذ مصحوب بظرف غير متوقع  واستثنائي يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا لا مستحيىلا. ولتفادي إشكالية التمييز بين هذين المفهومين يمكن تضمين مقترح القانون بعبارة “القوة القاهرة والظروف الطارئة” ولما لا تضمينه بعبارة “الحادث الفجائي” كذلك؛ بغية احتواء أكبر عدد من الوقائع التي تحدث صعوبات للمقاولات.

بالإضافة إلى ذلك، هناك مؤسسة قانونية مهمة يمكن إعمالها من قبل القضاء لتجاوز آثار كل الصعوبات التي يمكن أن يثيرها كوفيد 19 وما ماثله، وهي مؤسسة النظام العام؛ لأنها تشكل بحق إحدى مقومات نظام مساطر صعوبات المقاولة من جهة أولى، ولكونها مفهوما مطاطا يمكن تطويعه من قبل القضاء من جهة ثانية، وحفاظا على سلطة القاضي التقديرية من جهة ثالثة، طالما أن الأمر يتعلق بقاضي تجاري أو قاضي اقتصادي، يتطلب تمتيعه بقدر كبير من السلطة التقديرية؛ خصوصا وأن قرارته لا تتم إلا في إطار مسطرة جماعية تشاركه فيها عدة أجهزة؛ تتمثل في السنديك الذي عليه؛ إعداد الموازنة المالية والاقتصادية والاجتماعية للمقاولة مستعينا في ذلك بإفادات رئيس المقاولة وبتقارير الخبراء أولا، وتهييء مشروع مخطط مآل المقاولة ثانيا ، وبمواكبة من القاضي المنتدب ثالثا.

وتزداد حدة التضييق على سلطة القاضي التقديرية في ما جاءت به الفقرة 3 من المادة المقترحة التي تلزمه بقبول مخطط الإنقاذ متى تم باتفاق مع الدائنين. وهنا يطرح إشكال آخر حول تحديد مفهوم هذا الاتفاق؛ هل ينبغي أن يتحقق فيه الإجماع؟ وهذه صعوبة إن لم تكن نظرية فهي على الأقل صعوبة عملية؛ خصوصا عندما يتعدد الدائنون. أم يكفي في ذلك تتحقق الأغلبية؟ وهنا يطرح التساؤل عن مآل المركز القانوني للدائنين المعارضين.

وتماشيا مع الطروحات أعلاه، لابد من استحضار التوجه الحديث لقرار محكمة النقض المغربية بتاريخ 01 يونيو 2017 والذي أيدت فيه قرار محكمة الاستئناف التجارية بفاس الذي اعتَبَر أن ما تعانيه المقاولة من صعوبات ناتجة عن الأزمة العالمية التي يعيشها النسيج (وهي أزمة اقتصادية بالطبع)، ليست كافية لتبرير طلب فتح مسطرة المعالجة (التسوية أو التصفية القضائيتين)؛ بمعنى أنها لم تجعل من الأزمة الاقتصادية العالمية مبررا للأخذ بمفهوم التوقف عن الدفع. وخلفية هذا القرار يمكنها استيعاب واقعة كوفيد 19 والآثار الاقتصادية السلبية التي خلفها، دون حاجة إلى الحديث عن هذا الكوفيد في صلب القوانين التشريعية احتراما لمبدأي العمومية والتجريد السابق توضيحهما.

ورجوعا إلى الفقرة 2 من المادة المقترحة التي تنص على: “وإضافة إلى الوثائق التي يتعين على المقاولة تقديمها رفقة الطلب؛ والمنصوص عليها في المادة 577 أعلاه؛ فإنه يتعين عليها تحت طائلة عدم القبول تقديم قوائم تركيبية لآخر سنة مالية مؤشر عليها من طرف خبير محاسبي أو خبير معتمد، تفيد أنها قبل الجائحة كانت في عافية”. وكأن هذه الفقرة أحدثت مستجدا مهما والحال أن القانون الحالي يسمح للمحكمة بطلب أي وثيقة يراها مناسبة لتوضيح وضعية المقاولة، بل إن الصواب يستلزم من المحكمة الاستعانة بالقوائم التركيبية للبت في طلب فتح مسطرة الإنقاذ وفي غيرها من المساطر. بالإضافة إلى ذلك، فإنه حتى وإن تبين من خلال هذه القوائم أن المقاولة سبق لها -ما قبل واقعة كورونا- أن حققت نتائج سلبية، فإن ذلك لا يستلزم الأخذ بمفهوم التوقف عن الدفع، كما أخذ بذلك القضاء المغربي قبل أن تظهر وقاعة كورونا أصلا؛ حيث جاء في قرار حديث لمحكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء بتاريخ 22 مارس 2017 جاء فيه: “لكن حيث لئن كان التوقف عن الدفع لا يستفاد فقط بمعاينة أن الشركة حققت نتائج سلبية أي خسارات متتالية في قوائمها التركيبية بل يتعين أن تكون الشركة غير قادرة على أداء ديونها الحالة والمطالب بها وفي هذا الباب لا يجب الاعتماد فقط على مقارنة الخصوم القصيرة الأمد بالأصول المتداولة…”.

وجاء في الفقرة 6 من المادة 574 المقترحة أنه: “ويتعين أن يتقدم رب المقاولة بالطلب وفق مبدأ حسن النية تحت طائلة متابعته بجريمة خيانة الأمانة”. وهي فقرة حادت عن الاستعمال السليم للمصطلحات الواردة على الأقل في الكتاب الخامس من مدونة التجارة عندما استعملت مصطلح “رب المقاولة” بدل “رئيس المقاولة”. كما أن القانون الحالي خصص للتجريم القسم السابع من مدونة التجارة، فلماذ استثنى مقترح القانون التنصيص على جريمة خيانة الأمانة من داخل هذا القسم وألحقها بشكل معزول بالقسم الثالث؟ ألا يعد هذا عيبا شكليا واضحا؟

ثم إن هذه الفقرة حملت رئيس المقاولة مسؤولية جنائية ما كان من داع لربطها بمسطرة الإنقاذ؛ خصوصا وأن التوجه الجديد لقوانين الأعمال يتجه بشكل عام نحو التخفيف من العقوبات الجنائية واستبدال العقوبات الحبسية منها بالتغريمية، تشجيعا للمبادرة الاقتصادية الحرة. وأن الحديث عن سوء النية في تقديم الطلب بقي مبهما؛ فهل يقصد به تضمين الطلب ببيانات كاذبة أو أن رئيس المقاولة ما كان عليه أن يقدم الطلب أصلا لعلمه المسبق بأن المقاولة ليست في حاجة إلى فتح مسطرة الإنقاذ مما يمكن معه الحديث مجازا عن الدعاوى الكيدية. زد على ذلك، أن هذه الصياغة تتضارب مع الهندسة التشريعية للنص الجنائي الذي ينبغي -أكثر من غيره من باقي مجالات التشريع- أن يقوم على توخي الدقة الشديدة؛ لأن الحديث عن جريمة خيانة الأمانة معناه المس بحرية الأشخاص بشكل عام والمقاولين بشكل خاص ومن خلالهم المس بالاقتصاد.

وطالما أن مقترح القانون يتحدث عن خيانة الأمانة، فإنه بالرجوع إلى المادة547 من م.ق.ج، يتبين بأنه لا علاقة لهذه الجريمة بالتصرف الذي يقوم به رئيس المقاولة والمتمثل في تقديمه بسوء نية طلب فتح مسطرة الإنقاذ. وتوضيحا لذلك واعتبارا لخطورة هذه الجريمة لا بد من استحضار هذه المادة التي جاء فيها: “من اختلس أو بدد بسوء نية، اضرارا بالمالك أو واضع اليد أو الحائز، أمتعة أو نقودا أو بضائع أو سندات أو وصولات أو أوراقا من أي نوع تتضمن أو تنشئ التزاما أو إبراء كانت سلمت إليه على أن يردها، أو سلمت إليه لاستعمالها أو استخدامها لغرض معين، يعد خائنا للأمانة ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم.

وإذا كان الضرر الناتج عن الجريمة قليل القيمة، كانت عقوبة الحبس من شهر إلى سنتين والغرامة من مائتين إلى مائتين وخمسين درهما مع عدم الإخلال بتطبيق الظروف المشددة المقررة في الفصلين 549 و550”.

لكل هذه الاعتبارات، يمكن القول إن عدم استيعاب مفهوم وغاية وخصوصية القاعدة القانونية سيؤدي إلى المس بمفهوم الأمن القانوني ومن خلاله الأمن القضائي فالأمن الاقتصادي والاجتماعي. وأنه إذا كان من داع لأي تعديل قانوني، فلا بد أن يكون بنظرة استشرافية بعيدة المدى، يتم فيها استحضار المبادئ العامة التي تتماهى في ظلها القواعد القانونية؛ الموضوعية منها والمسطرية، من قبيل النظام العام، بالإضافة إلى مراعاة نطاق السلطة التقديرية التي ينبغي أن تمنح للقاضي والتي تختلف بطبيعة الحال من مجال إلى آخر؛ من التضييق كما هو الحال في المادة الجنائية؛ حيث لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ولا مجال لإعمال القياس فيها، إلى التوسع كما الحال بالنسبة للمادة التجارية التي يلعب القياس فيها دورا مهما في مواجهة جل الحالات المعروضة على القضاء. وكل هذه المعطيات تم تجاوزها عند صياغة المادة 574 مكررة من مقترح القانون.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • مهدي
    منذ 4 سنوات

    وعلى ذكر القاعدة القانونية لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص أتشرف بكوني جزءا منه "طالب سابق عنده" أعترف بكفائته المدهش فملاحظته في الصميم. أشكره من صميم قلبي على تشجمه كل هذا اتمنى من الله عز وجل أن تصل الأفكار الأطر والكفاءات . مع لطفه #covid-19