منتدى العمق

أمريكا والصين ماذا بعد كرونا؟

أخذ ترامب على عاتقه مهمة تقليص النفوذ الاقتصادي الصيني منذ وصوله إلى سُدة حكم الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016، خاصة في العلاقات التجارية حيث بدأ بفرض رسوم على بعض الواردات الصينية حتى يستطيع أن يخضع الحكومة الصينية ويرغمها على مفاوضات تجارية من شأنها تخفيض العجز التجاري الذي بلغ قرابة 350 مليار دولار لصالح الصين.

ومع انتشار فيروس كورونا في أغلب دول العالم، كانت الولايات المتحدة الأمريكية في أزهى قوتها الاقتصادية فقد انخفض معدل البطالة إلى 3.5٪ وهو معدل لم يحدث منذ ستينيات القرن الماضي. هذا المعدل يعني أن الاقتصاد بلغ حالة التوظيف الكامل، أي أن الاقتصاد يستغل موارده أقصى استغلال ممكن. إلا أنه تعرض لنكسة جديدة بسبب فيروس كرونا الذي كانت الصين (ووهان) بؤرة انشاره وتصديره للعالم كافة عبر حركة النقل الدولية للمسافرين والبضائع ، وقد يعتبر هذا مقصوداً في بعض جوانبه فعلى الأقل، كان بإمكانهم الإعلان عن تفشي الفيروس بين مواطنيهم، وكان بالإمكان منع انتشاره، عبر إغلاق منافذهم الحدودية الخارجية، ومنع انتقال الصينيين ضمن دائرة خطر الفيروس.

إن صمت الصين عن انتشار الوباء في مرحلته الأولى، يمكن اعتباره أمراً سياسياً على علاقة بأمور اقتصادية، أكثر من اعتباره محاولة سيطرة على وباء، ولهذا لم تستطع القيادة الصينية، أن تتبنى هذه السياسة علناً، لأنها بذلك ستواجه حملة عزلة دولية كبرى.

فساهمت بذلك في انتشار هذا الوباء بصورة سريعة في أرجاء العالم، وتحديداً في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط ما ولد حالة ركود في الاقتصاد العالمي لا يقل فداحة، إن لم يزد، عن الركود الذي ولدته أزمة 2008 المالية-الاقتصادية. بتراجع عجلة الإنتاج الصينية، وتراجع الطلب عبر العالم، يُتوقع أن يجر الاقتصاد الصيني، باعتباره قاطرة رئيسة للاقتصاد العالمي، العالم معه إلى الكساد.

فما هو الكساد الاقتصادي؟

الكساد الاقتصادي ببساطة عبارة عن كارثة اقتصادية حادة ينخفض خلالها الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة لا تقل عن 10%. و الكساد أشد بكثير من الركود، و آثاره من الممكن أن تستمر لسنوات، وهو في الحقيقة يكون بمثابة الكابوس بالنسبة للأعمال التجارية و المصرفية و أنشطة التصنيع.

يرى أغلب الاقتصاديين أن الاقتصاد العالمي سيدخل في كساد إجباري بعد إلزام المواطنين بعديد من الدول بالمكوث في منازلهم، كإيطاليا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وإيران وغيرها. مما خفض حجم الطلب على المستوى الكلي في كل دولة، فالولايات المتحدة الأمريكية قد خسرت 3.5 مليون وظيفة على أقل تقدير خلال الأيام الفائتة، مع إعلان كثير من شركات الطيران والفنادق والمطاعم تسريح العديد من عمالها، بعض عمليات التسريح كانت اختيارية والبعض الآخر إجبارية.

وفي ظل استمرار مؤشرات الاقتصاد العالمي بالتراجع بسبب تأثيرات فيروس كورونا المستجد، دخلت الأسواق المالية في حالة من الهلع بسبب حرب جديدة بأسعار النفط، والتي تسببت بخسائر في البورصات العالمية، ما أحدث إرباكا تسبب في وقف التداولات في بعضها ووفقًا للعديد من الاقتصاديين، فإن خطر انهيار سوق الأوراق المالية في عام 2020 كبير بالفعل، نظرًا للوضع و التوقعات الحالية. سيكون انهيار سوق الأسهم وشيكاً. ويمكن للتحولات الكبيرة في أسواق الأسهم، حيث يتم شراء وبيع أسهم الشركات، أن تؤثر على العديد من الاستثمارات، خاصة في المعاشات التقاعدية أو حسابات التوفير الفردية.

إن الاقتصاد العالمي سيعاني من أكبر تراجع في النمو منذ الأزمة المالية عام 2008، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).كما و توقع خبراء مؤسسة “آي إتش إس ماركيت” أن ينكمش النمو بنسبة 2.8 ب2020، مقارنة بانخفاض بلغ 1.7 في المئة عام 2009. التوقع ذاته ذهب إليه المتحدث باسم الصندوق النقد الدولي، جيري رايس، خلال مؤتمر صحافي، الذي أكد خلاله أن نمو الاقتصاد العالمي سيكون حتما أدنى مما كان عليه قبل عام2009 (2,9 في المائة) .

فهل معناه بداية نهاية النظام الرأسمالي؟

الإجابة الحتمية هي “لا”، خاصة إذا علمنا أن سبب تدهور الإنتاج هذه المرة ليس ناشئاً عن أسباب اقتصادية بل هو بالمقام الأول يعود لأسباب صحية خارجة عن هيكل النشاط الاقتصادي، مدفوعة من فيروس كورونا. ففي حالة اكتشاف مصل للوباء، سيعود الطلب والعرض الكليان إلى سابق عهدهما وسيتعافى الاقتصاد الرأسمالي سريعاً.

وستخفف الإجراءات والسياسات النقدية والمالية التي اتبعت من قِبل الحكومات وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية من حدة الكساد. فقد ضخ الرئيس الأمريكي قرابة تريليون دولار، ستُعطى كمنح من الحكومة لمن فقدوا وظائفهم. مع إعطاء كل مواطن أمريكي بالغ ألف دولار شهرياً، بالإضافة إلى منحة قدرها 50 مليار دولار لشركات الطيران والسفر التي تأثرت بالأزمة. كما خفض البنك الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة إلى الصفر فضلاً عن ضخ 700 مليار دولار في السوق المفتوحة حتى يزيد من حجم الطلب الكلي.

إن المعركة ضد الوباء الحالي سينقشع غبارها عن عالم أقل انفتاحا وأقل ازدهارا وحرية نظرا لتضافر عوامل عدة، من ضمنها التخطيط غير المناسب والقيادات التي تفتقر للكفاءة مما يضع البشرية على مسار مثير للقلق. وهذا ما برز جليا في تعثر واشنطن مقابل تحرك بكين بسرعة وبراعة للاستفادة من الخرق الذي خلفته الاخطاء الامريكية في محاولة منها لملأ الفراغ بوضع نفسها كزعيم عالمي بعرض تجربتها في التصدي للوباء. وكان هذا الوباء فرصة تسويقية لها عبر تقديم مساعدات الطبية بما في ذلك الاقنعة وأجهزة التنفس الصناعي والبذلة الواقية.

فمنذ بداية الازمة اشترت الصين وأنتجت وتلقت مساعددة كميات هائلة من هذه السلع. وهي الان في وضع يمكنها من تسليمها للاخرين.

في الوقت الذي لم تستجب أي دولة أوروبية لنداء إيطاليا العاجل بخصوص نقص المعدات الطبية وأدوات الحماية التزمت الصين وعلنا ارسال 1000 جهاز تنفس، ومليوني كمامة، و100000 قناع واق و200000 بدلة واقية، و50000 جرعة اختبار. كما أرسلت الصين فرقا طبية و 250 ألف قناع لإيران وأرسلت إمدادات إلى صربيا.

فالصين باتت المنتج الرئيسي للاقنعة الطبية حيث زادت من حجم إنتاج الاقنعة أكثر من 10 أضعاف، مما محنها القدرة على توفيرها للعالم. وتنتج الصين الغالبية العظمى من المكونات الصيدلانية النشطة اللازمة لصنعها.

وقامت الصين بحملة دبلوماسية قوية لتربط عشرات الدول ومئات المسؤولين، عبر تداول فيديو لتبادل المعلومات حول الوباء والدروس المستفادة من تجربة الصين الخاصة في مكافحة المرض. ليس فقط على المستوى الدبلوماسية الصينية، في أغلب المجالات المرتبطة بالوباء يتم بذل هذه الجهود على المستوى اللإقليمي أو من خلال الهيئات الإقليمية. وهي تشمل مكالمات مع دول وسط وشرق أوربا من خلال آلية 17+1 ومع أمانة منظمة شنغهاي للتعاون، ومع عشر دول في جزر المحيط الهادئ، ومع مجموعات أخرى عبر افريقيا وأوروبا وآسيا. تعمل الصين بجد لنشر مثل هذه المبادرات.

إن بكين قامت بما هو متوقع من القائد ونقصد هنا إدارة المشكلة في الداخل، وإعلان عن استعداد لتوفير المساعدة لمختلف دول العالم وتنسيق الاستجابة العالمية.

وهذا يقودنا إلى صعوبة التنبؤ بأثر الخطى الهائلة لتحرك الصين خصوصا أنها بات ينظر إليها على أنها رائدة في مكافحة الوباء وينظر إلى واشنطن على أنها غير قادرة أو غير راغبة في القيام بدور العالمي، وهذا التصور يمكن أن يغير بشكل أساسي وضع الولايات المتحدة في السياسة العالمية وسباق قيادة العالم في ق 21.

كان بالإمكان التخفيف من الآثار العالمية لهذا الوباء إلى حد كبير من خلال قيام المنظمات الدولية بتوفير مزيد من المعلومات في وقت مبكر، الأمر الذي سيمنح الحكومات الوقت الكافي لإعداد وتوجيه الموارد للأماكن التي تعد أكثر حاجة إليها، وكان بمقدور الولايات المتحدة الاضطلاع بهذا الدور وتنظيم تلك الجهود لتثبت أن اهتمامها لا ينصب فقط على الشأن الداخلي الأميركي.

صحيح أن الجائحة لن تؤثر كثيرا على الاتجاهات الاقتصادية العالمية، ولكنها ستسهم في تسريع تغيير كان قد بدأ بالفعل من حيث الرمزية والقيادة، بسبب نكسة سلوك الإدارة الأميركية التي قامت بتغليب المصالح الذاتية الضيقة، أضف إلى ذلك فقدان الشعب الأميركي الثقة بالعولمة والتجارة الدولية، والذي بات أيضا يرى أن اتفاقيات التجارة الحرة أصبحت سامة سواء في ظل حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو غيره.

وفي المقابل، لم يفقد الصينيون ثقتهم بالعولمة والتجارة الدولية نظرا لما حققه انفتاح الصين على العالم خلال العقود القليلة الماضية انتعاشا اقتصاديا وعزز ثقة الشعب الصيني بثقافته، فبات الصينيون يؤمنون بقدرتهم على المنافسة في أي مكان من العالم.

يبدو أنه سيكون لهاته الازمة العالمية تأثيرات جوهرية على النظام العالمي الحالي وستفتح الطريق لتغييرات جذرية على المدى المتوسط والبعيد.
وما نلاحظه إثر بعض الاسابيع فقط للازمة العالمية :

تذبذب وارتباك كبير للادارة الامريكية في مواجهة الأزمة لتتصدر حاليا الدول أكثر انتشار للفيروس مع خسائر بترليونات الدولارات.

كشفت الأزمة عن أهمية إعادة النظر في استراتيجيات الأمن القومي الأميركي، والتي تؤكد على النزعة الانفرادية والعصف بالتحالفات والمنظمات الإقليمية والدولية، منذ استراتيجية 2002 وتعديلاتها المتتالية في 2006، 2010، 2015، 2018، لأن هناك من الأزمات والكوارث ما لا تستطيع قوة واحدة في العالم، مهما كانت إمكانياتها وقدراتها، أن تواجهه.

فيروس كورونا شكل فرصة للعمل على توطيد علاقة الصين ببعض بلدان العالم لخلق بدائل اقتصادية مقابل التمهيد لإضعاف العلاقة بالاقتصاد الأمريكي الذي سيمثل خلاصا لها من الحروب ترامب التجارية التي لا تظهر في الأفق نهاية لها.

الاتحاد الاوروبي سيشق طريقه نحو التفكك ليترك المكان للقوة الثالثة عالميا وهي المانيا.

أن الشركات ستسعى إلى ضمان توفير إمداداتها بشكل أفضل بحيث ستعيد النظر في سلاسل التوريد متعددة البلدان، وستعمل على تقليصها، من خلال عمليات الدمج وإعادة البناء، للحد من الارتباطات الدولية الشديدة التعقيد، والتي كشفت عنها الأزمة، مع إغلاق العديد من الفروع في البلاد التي تفشى فيها الوباء.

كشف فيروس كرونا عن عدم جاهزية المنظمات الدولية المتخصصة للتعامل بحيث تفتقد منظمة الصحة العالمية، كما الأمم المتحدة، منظمتها الأم، المقدَّرات الكافية لتوفير المساعدات الضرروية والسريعة للدول غير القادرة على التعامل مع الوباء.

تعزيز دور الدولة الوطنية، وترسيخ قيم المواطنة، في ظل تصاعد الإجراءات الاحترازية التي تبنتها الدول، وسياسات الحجر والحجز والعزل التي تبنتها الحكومات، بل واعتماد الكثير منها على المؤسسات والأجهزة الأمنية والعسكرية لفرض الالتزام بهذه الإجراءات، وتعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، في مواجهة فكرة العولمة الاقتصادية، ولو مرحلياً. ومن المتوقع أن تسعى بعض الحكومات إلى الحفاظ على ما اكتسبته من سلطات وصلاحيات حتى بعد أن تنتهي الأزمة، لتشديد قبضتها في مواجهة المنظمات المجتمعية والقطاع الخاص، وخاصة بعد أن كشفت الأزمة عن ضرورة وجود قطاعات صحية وطنية قوية وقادرة، تتوفر لها الإمكانيات والقدرات والصلاحيات اللازمة لمواجهة مثل هذه الأزمات.

وخلاصة القول أنه وكما أدى الكساد الكبير الذي أعقب الأزمة المالية العالمية لعام 2008 إلى ظهور الوضع الجديد للاقتصاد المتمثل في استمرار النمو المتدهور، والاستقرار المالي المصطنع، نتوقع أن تغيير أزمة كورونا التضاريس الاقتصادية العالمية. فسوف تسرع عملية إزالة العولمة وإلغاء التقارب وإعادة تعريف الإنتاج والاستهلاك في جميع أنحاء العالم. دون تحول جذري في بنية العلاقات الدولية وشكل النظام الدولي، الذي سيظل على المدى المنظور أحادي القطبية، تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، مع استمرار الطابع الصراعي على التفاعلات الدولية، بين الصين من ناحية والولايات المتحدة من ناحية ثانية. والدليل على ذلك الأوبئة التي مرت على البشرية من قبل لم تضع حدا للتنافس بين القوى العظمى ولم تكن نقطة بداية لحقبة جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *