وجهة نظر

التصويت في الانتخابات بين الحق والواجب

في عز الوباء، تصدر تصريحات هنا وهناك، متطلعة إلى عودة عجلة السياسة للدوران، داعية إلى إلزامية التصويت، في ظل هذه الأجواء جاءت هذه التأملات……

التصويت واجب، التصويت حق، لسنا أمام فزورة أو فسحة للكلمات المتقاطعة، ولا أمام لعبة للثنائيات الضدية، بل نحن أمام تعبيرين لموقعين وموقفين مختلفين إلى حد التناقض، وأن التموقع مع هذا الخيار أو ذاك ستنجم عنه نتائج ليست بالهينة. أغلب الأحزاب تميل إلى استعمال الصيغة الأولى في حملاتها الانتخابية داعية بذلك المواطنين إلى المشاركة المكثفة في الاستحقاقات التي تعرفها بلادنا والتعبير عن موقفها باختيار من تراهم من المرشحين أهلا للوصول إلى المهام التمثيلية، في حين اختار دعاة المقاطعة الاصطفاف وراء الفكرة التي تعتبر التصويت حقا بدل أن يكون واجبا، علما أن هؤلاء أصبحت أعدادهم تقل وتتراجع بعد أن أصبحت المشاركة خيارا تتبناه جل التنظيمات إن لم نقل كلها، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.

أن يكون التصويت واجبا، معناه أن من لا يقوم به مخل بالتزام تعاهدنا على رعايته وحملناه على كاهلنا منذ اعتبرناه كذلك، وقد يصل الأمر إلى حد مساءلة المتهاونين والخارجين عن الإجماع الوطن، وبالتالي ينبغي محاسبته. هذا النوع من الخطاب أصبح البعض يروج له بالدعوة إما إلى جعل التصويت إلزاميا، أو بتجريم مقاطعة الانتخابات، خطاب يجد صداه ذات اليمين وذات اليسار، يصدر عن قياديين حزبيين، وآخرين كانوا بالأمس القريب على واجهة حقوق الإنسان وطنيا.

الدعوة إلى إلزامية التصويت وتجريم المقاطعة موقفان ينطويان على ملامح كفر بجزء من تاريخ النضال السياسي بالمغرب والعالم المتوج بانتزاع حقوق لم يكن أحد وقتها يتوقع أن يتم انتزاعها وتصبح في حكم المكتسبات، كان المشهد السياسي وقتها واضح المعالم وجلي الاصطفافات، اليمين يمين، واليسار يسار، وبينهما مواقع هلامية تنتظر إشارات لدعم هذا الجانب أو ذاك، وكان الناخب يعرف ما يمكن لصوته أن يحدثه من تأثير على الخريطة السياسية بشكل دفع الفاعل السياسي إلى تدخل لإعادة رسم معالمها وجعلها قابلة لأن يُتحكم فيها. كانت الانتخابات صراعا بين جهتين، تملكان قدرا من التأثير والاستقطاب والدفع إلى المشاركة الفاعلة والمؤثرة في النتائج، وكانت جهة وسطى لم تؤمن بعد بقدرة الانتخابات على إحداث التغيير المرجو، ممتنعة عن المشاركة حينا، وحينا آخر داعية إلى مقاطعتها وهو ما جعلها في الغالب الأعم تدفع ثمن ذلك من حرية عناصرها. في ظل هذه الأجواء كانت مشاركة الناخبين تصل مستويات مقبولة.

اليوم يشتكي الكل من تراجع مستوى المشاركة، لدرجة تصل لأعداد جد متدنية، رغم التسهيلات المقدمة لتمكين المواطنين من الإدلاء بأصواتهم، ورغم الإغراءات المقدمة من طرف المرشحين، فالصناديق أصبحت تستقبل عددا أقل من الأصوات، ناهيك عن الأوراق الملغاة. وكما هي عادتنا دائما، بدل أن نعمق أبحاثنا في الظاهرة للوقوف عند أسبابها، نفضل التفسير الجاهز، ونحمل مسؤولية ما وقع ويقع للمواطن المعزز لموقف العزوف السياسي، متهمينه بعدم اهتمامه بالسياسة، رغم أننا أدخلنا المرشحين إلى كل البيوت محمولين على صهوات قنواتنا التلفزية، وأعددنا لهم موائد سياسية أكثر من دسمة طيلة فترة الحملة الانتخابية حتى التخمة، علما أن مثيلاتها في الأيام العادية تكاد تغيب، إلا ما رحم ربك. ناسين أو متناسين أن هذا المواطن الذين يتهمونه بالعزوف عن السياسة، مسكون بها حتى الهوس، لكن السياسة كما يفهمها، وكما يحبها، وليست تلك السياسة التي يُراد أن تفرض عليه. فالشباب المتهم الأول بالعزوف عن السياسة هو الذي خرج في حراك 20 فبراير، المولود الذي رفض الجميع في بداية الأمر منحه شرعية الميلاد، ليتهافتوا عن اللهج باسمه بعدما تم قطف النتائج، وحملة المقاطعة التي يُجهل من أطلق رصاصتها الأولى، ولحساب من، انخرط الجميع في مسيرتها وأصبحت ثورة حقيقية بدون قيادة، ثورة ضد الاحتكار، ثورة ضد المنافسة المخدومة التي تزداد قوة كلما نهشت أجساد الفقراء والمهمشين.

ليست هذه هي السياسة التي تريد نخبتنا وتهواها، هي لا تريد من السياسة إلا تلك التي تحملها على أكتاف الدراويش المحرومين والطبقات الهشة لتنصبها نخبة سياسية أبد الدهر صانعة منها أصناما عصية التحلل، لن تقبل أن تتقاسم مع أي كان ما وصلت إليه بالخداع والمكر في تمثل ناجح للسياسة الميكيافيلية التي تحولها لفضاء للمكر والخداع وفن الاحتيال المتجدد. وماذا تقدم هذه النخبة في المقابل؟ لا شيء.. فلا هي حاملة لأفكار جديدة تحييها بفن وإبداع، ولا هي تجتهد في التفكير والبحث عن حلول لأمراض هذا الوطن العصية على العلاج، المتعفنة بقروحها. لقد أعلنوا موت الأفكار، فأصبحت البرامج نسخا متداولة بين كل مكونات المشهد السياسي، منقولة بمرجعياتها الهشة، وبإحالاتها البعيدة عن الواقع. إنها برامج مكتوبة على عجل تحت الطلب. لا للعمل على تحويلها إلى خطط مستقبلية والاشتغال عليها إذا ما حملتهم جيادها إلى كراسي المسؤولية، وإنما ليقال عنهم إنهم جاءوا ببرامج قابلة للتطبيق، وإنهم كانوا السباقين إلى قول هذه الفكرة أو تلك، وأن لهم تاريخ في السبق؟؟.

نخبنا السياسية لا تربط بين كسلها والعزوف عن المشاركة في الاستحقاقات السياسية، ولا بين ترهل الكراسي التي ملت من جالسيها وبين اشمئزاز الناخب في إعادة تزكيتهم أو في أحسن الأحوال تزكية ذرياتهم وأصدقائهم وصديقاتهم و.. وبين تناقص أعداد المصوتين. هم يفهمون فقط أن هذا المواطن عليه أن يصوت، وعليه أن يجعل منهم نخبا لا تقدم الحساب على مواقفها، ولا على تكتلاتها، ولا على خياراتها…، إنهم كالداخل إلى الامتحان بدون كد واجتهاد، لكنه راغب في النجاح ولو بالغش الذي يصبح بفعل المداومة على اللجوء إليه، حقا مكتسبا لا يجوز حرمانهم منه. لكل ذلك يجب أن نجعل من التصويت، في نظرهم، واجبا لا حقا، نمتنع عن استعماله إذا أحسسنا أننا بذلك نعاقب الكسالى، أو على الأقل ندفعهم إلى الاجتهاد والإبداع حتى لا نغمط الأغلبية الصامتة حقها في بناء هذا الوطن. أما أن يكون حقا نمتنع عن استعماله دفعا إلى تجديد النخب، وإبداع أفكار جديدة ترجعنا إلى زمن الأفكار القادرة على بعث الأمل والتمسك به إلى آخر رمق، وتكريس المحاسبة بالتمييز بين دور السياسي والتكنوقراط، فهذا ما لا يمكن أن تقبل به نخبتنا، فدعهم يتسابقون إلى تحويل الحق إلى واجب، وقتها سيكون واجبا مُفرغا من كل معانيه السامية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *