وجهة نظر

لا بديل عن الديمقراطية

لا يمكن الإدعاء بأن جميع الحركات الاسلامية تقبل بالديمقراطية كطريقة للحكم، اذ توجد بعض التيارات التي تعادي الديمقراطية صراحة او تتحفظ عليها ومنها من تقبل بها بشروط وقيود والدافع الى تلك المواقف يختلف من تيار الى آخر، فبعض التوجهات الراديكالية ترفض الفكرة مطلقاً باعتبارها تؤدي الى حكم الشعب وان الديمقراطية مرتبطة بالعلمانية اما في الاسلام فيجب تحكيم الشريعة لا الشعب، وتمة اتجاه اخر يرفض الديمقراطية باعتبار انه يوجد بديل في الاسلام وهو “الشورى”، ولا يعترض هذا الفريق على مبدأ السلطة للأمة وانما ينصب الرفض على مصطلح الديمقراطية اكثر منه على جوهرها، وهناك اتجاه آخر يتفق ايضا على مبدا السلطة للشعب ولكن كيفية ممارسة هذه السلطة بالآليات الديمقراطية الحديثة هو محل الرفض كالأحزاب السياسية والانتخابات وطريقة الأغلبية في اتخاذ القرارات ، ففي مفهوم هذا الفريق الصواب مع الحق لا مع الأغلبية وان الدعاية الحزبية تتنافى والأخلاق الاسلامية من وجهة نظرهم، هذا و توجد بعض الاتجاهات الاسلامية تبرر رفضها للديمقراطية بدعوى الممارسات السياسية لبعض الأنظمة العربية الحاكمة التي يشوبها الكثير من القهر و الاستبداد والبرلمانات الزائفة والحريات الصورية، و المفروض ونحن امام قوى سياسية ترفض الديمقراطية ان نقف على حقيقة هذا الرفض و دوافعه وان نناقشها مناقشة علمية هادئة لا ان نتخذ هذا الرفض مطية ووسيلة دعائية لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة.

لقد أثار مفهوم الحاكمية لله سوء فهم خطير لدى بعض الجماعات الاسلامية جعلهم يحجمون مطلقا دور الشعب في العملية السياسية، كما اثار شعار “الدولة الإسلامية” سوء فهم لدى هذه الجماعات لا يقل عن الأول جعلهم يظنون ان الدولة في الإسلام بطبعها “ثيوقراطية”، وان اعتبار الشعب مصدر السلطة واعطاءه حق التشريع يعتبر خروجا عن قواعد الاسلام بحجة ان حق التشريع يعود لله وحده وان الآمة لو أعطي لهذا الحق بدون قيود لشرعت ما يناقض القواعد والاحكام الثابتة في الدين، وهذا الفهم هو في منتهى الخطورة لأنه قد يؤدي الى تكرار التجربة الكهنوتية في العصور الوسطى لكونه يعطي المشروعية للأقلية للتشريع باسم الدين اعتقادا بأن كل التشريعات مدونة في الكتاب والسنة وانه لا مجال للاجتهاد ، و ينسى هذا الاتجاه ان التراث الهائل للفقه الاسلامي والمتعلق بالمتغيرات مصدره الاساسي الفكر البشري ، وان الثوابت المتعلقة بالغيبيات واحكام العبادات في القران والسنة لا تشكل الا جزءا قليلا من التشريع الاسلامي، والاسلام في جوهره يشجع على الاجتهاد ويحض على ابتكار القوانين التي تسهل على الناس امور دنياهم وتحقق العدالة بينهم ، ونهى عن اقحام اسم الله خلال الاجتهادات الدنيوية بل يجب نسب الاجتهاد الى اصحابه، فقد حدث ان حكم امير المؤمنين عمر ابن الخطاب في قضية حكما استحسنه احد الصحابة فقال مجاملا: “هذا والله حكم الله”، فزجره عمر قائلا :”بئس والله ما قلت بل هذا رأي عمر ان يكن صوابا فمن الله وان يكن خطأ فمن عمر” ، فالملاحظ في هذه النازلة أن عمر لم يقحم مسألة الحلال والحرام في الرأي ، بل أشار الى الخطأ و الصواب باعتبار ان المسألة لا تعدو ان تكون اجتهادا بشريا في امور مدنية .

إن احتمال الصواب والخطأ في الاجتهاد السياسي والمدني يشجع عل الاختلاف السلمي، وهو يخضع للقاعدة الذهبية التي تقول “رأيي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب” ، أما إدخال الحلال والحرام الذي هو حق لله وحده في الاجتهاد البشري قد يقود الى التكفير والاقتتال والتطاحن، ان الأمة في الاسلام هي صاحبة السلطات وصاحبة اختيار من ينوب عنها في ممارسة الحكم و الأمر يتعلق بسلطة مدنية منتخبة من ممثلي الأمة، والالتزام بشريعة الاسلام لا يحولها الى سلطة دينية بالمفهوم السائد في التاريخ الأوروبي.

و إذا انتقلنا الى قضية أخرى وهي شرعية الأحزاب السياسية التي تعد عنصرا اساسيا في النظام الديمقراطي نجد ان الاتجاه المعارض للديمقراطية يرفض مطلقا وجود هذه الهيئات السياسية في دولة الاسلام، ويستند في ذلك على مجموعة من الأدلة نذكر منها ان الأحزاب في زعمهم تؤدي الى التفرقة وتشتيت الأمة المنهي عنه بنص القرآن والسنة ، و و أنه لا يوجد في الإسلام إلا حزبين اثنين لا ثالث لهما هما حزب الله وحزب الشيطان، وينسى هذا الفريق ان التفرقة المحرمة شرعا هي التفرقة في الدين الذي هو مبرر وجود الأمة وهذا لا خلاف فيه، اما الأحزاب السياسية فلا يزيد دورها عن اقتراح البرامج العملية في نطاق تحقيق المصلحة العامة ، واذا لم يكن الشارع قد نص عليها فإنه في المقابل لم يوجب تحريمها ، وقواعد الاجتهاد في الاسلام تتكيف مع تغير ظروف الزمان والمكان ومصالح الأمة، فالإسلام يحترم حق الأجيال المتعاقبة في ابتكار الانظمة المتجددة القادرة على تحقيق احتياجاتها في جميع الميادين، وحيثما توجد المصلحة فتم شرع الله، فإذا تبين ان التعددية الحزبية هي الافضل تعبيراً عن نظام الشورى وانها ستؤدي الى توفير المزيد من العدالة و الحقوق و الحريات العامة فعلينا ان نأخذ بها طبقا للقاعدة الاجتهادية ” ما يراه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن “، والواقع ان موقف خصوم الديمقراطية من الاحزاب السياسية لا يمليه وجود ادلة عقلية او نقلية واضحة، بل يوجد حاجز نفسي يحول بين هؤلاء وكلمة “الأحزاب” التي ارتبطت في أذهان البعض بالكفر في حقبة تاريخية معينة حيث وقفت تحالفات سماها القرآن بالأحزاب ضد الدعوة الاسلامية، فترسخ في ذهن بعض المسلمين فكرة عن “الأحزاب” كمقابل للكفر، فالمشكل يكمن اذن في المصطلح اكثر منه بالمفهوم.

وننتقل الى مبرر اخر يسوقه خصوم الديمقراطية وهو القول بأن في الديمقراطية يكون الحكم للأغلبية وان الأكثرية ليست دائما معيارا للصواب وانه يجب اتباع الحق لا الأكثرية التي قد تحيد احيانا عن الحق، ان هذا التبرير ليس مستساغا من الناحية المنطقية والواقعية، فكيف يكون معيار الحقيقة ان لم تكن طريقة الأكثرية ؟ وما هي الوسيلة التي يجب اعتمادها لاتخاذ القرارات وإصدار التشريعات إن لم تكن موافقة الأغلبية عليها ؟ ومادام الجميع يدعي ان الصواب في جانبه فكيف يمكن حسم الخلاف؟ وما الذي يؤكد ان الحق مع هذه الفئة دون سواها ؟ فإذا استثنينا الكليات الثابتة والأحكام القطعية في الدين هل يستطيع احد ان يجزم في المتغيرات ان هذا الاجتهاد او داك هو الصواب وليس غيره ؟، ان خطورة هذا الاتجاه تكمن في انه قد يفتح الباب امام بروز فئة تدعي انها تملك ناصية الحقيقة و انها هي التي تستحق ان تتولى مقاليد الأمور مع ما قد ينتج عن ذلك من تسلط و استبداد ، والتجربة الاسلامية حتى في احلك عصور الظلام لم تعرف وجود فقهاء يمتلكون السلطة الدينية ويشرعون للدولة كيفما يحلو لهم .

ان الفهم الخاطئ لدى بعض الاتجاهات الاسلامية للآليات التي تشتغل بها الديمقراطية جعلهم يقفون منها موقفا مناوئا، ومع ان هذا الاتجاه يشكل شذوذا عن الخطاب الاسلامي العام ، ومع ان نطاق تأثيره جد محدود، إلا انه لا يسع المرء الا ان يبدي دهشته من حجم الحملة الاعلامية التي تحاول ان تجعل من هذا الشذوذ أنه هو الأصل ، وبدلا من ان يقوم خصوم المشروع الاسلامي بدراسة وجهة نظر تيار الرفض هذا ونقذها بكل موضوعية علمية ونزاهة فكرية ، فإنهم يجدونها فرصة للتشهير بالأحزاب السياسية ذات المرجعية الاسلامية جملة وتفصيلا ونعثها بأقبح النعوث، فهم بدون استثناء متطرفون، ارهابيون، رجعيون، لا مجال للحوار معهم ولا السماح لهم بالوجود القانوني بحجة انهم خطر على الديمقراطية، وفي حقيقة الأمر فإن بعض الاتجاهات العلمانية لا يهمها كثيرا موقف الاحزاب السياسية ذات التوجهات الاسلامية، فسواء كانت هذه الاحزاب تؤمن بالديمقراطية حقيقة او لا تؤمن بها فهي مدانة حتى تثبت براءتها المتلخصة في انسلاخها من مرجعتيها الفكرية اي من الاسلام نفسه.

إن العلمانية في الوطن العربي تقوم على اعتبار ان جوهر الديمقراطي لائكي، والذي يملي هذا التوجه النظري هو الاعتقاد بعالمية الفكر الغربي وتطبيقه للديمقراطية ويبني مسلماته على الفرضية التالية:ان المجتمعات العربية تمر مع البلدان النامية بمرحلة تاريخية تشبه من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية المرحلة التي مرت بها المجتمعات الغربية خلال القرن 19، وعليه فلا مناص للمجتمعات العربية من سلوك نفس منحى التطور التاريخي الذي سار فيه المجتمع الأوروبي باعتباره النموذج المثالي الأسمى الذي يتعين السير على منهاجه ، وهذا التفكير انما يدل في حقيقة الأمر على “سلفية الاتجاه العلماني” الذي ما فتئ يستند في نظرياته وتحليلاته على المقولات والأفكار التي قدمها الفكر الغربي منذ قرون من الزمن ، فهذا الاتجاه يعلن الولاء المطلق للفكر الغربي و للنموذج الاجتماعي الغربي بشكل حرفي مغلق بالرغم من انه لا يعكس و لا يعبر عن حركة الصيرورة التاريخية للمجتمعات العربية، واذا كان جانب من العلمانيين المعتدلين في العالم العربي قد قام بإجراء نقذ ذاتي توصل من خلاله الى نتيجة مفادها ان التطبيق الحرفي للعلمانية ليس من شأنه تأزيم وضع المجتمع العربية فحسب بل أكثر من ذلك يعد مستحيلا من الناحية العملية، ومن تم ضرورة العودة للجماهير والتصالح مع قيمها ومبادئها الدينية و الثقافية ، ومع ذلك فإن قطاعا واسعا من المتعصبين لازال مصرا على ضرورة علمنة الدولة والمجتمع وتنقية كافة انظمتها ومؤسساتها السياسية والتعليمية والثقافية من كل ما من شأنه ان يتنافى مع المبادئ العلمانية ، والأخطر من ذلك فإن فريقا من هذا الاتجاه يدعو الى استعمال العنف في حق المخالفين بحجة انه “لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية”.

إن هذا الاتجاه الإقصائي المتعصب لا يمكن ان يخدم قضية الديمقراطية والتعددية، فهو يؤمن بالفكر الواحد والحقيقة الواحدة ، فعنده العلمانية قيمة مقدسة يمكن التضحية في سبيلها بكل شيء ولو كانت إرادة الشعب هي الضحية، وفي الوقت الذي نجد فيه أغلبية الحركات الإسلامية الراشدة قد توصلت في تحليلاتها النظرية الى حتمية الديمقراطية كنظام للحكم وتعهدها بالالتزام بنتائجها، نشاهد في الخطاب السياسي العلماني المتطرف مفاهيم غريبة و خطيرة كمفهوم “ديمقراطية الخطوة خطوة” و “ديمقراطية الاستثناءات” او “ديمقراطية الشرط الفاسخ” ، وهي كلها مقولات ان كانت تدل على شيء فإنما تدل على رغبة دفينة لحرمان الشعوب العربية من حقها في الاختيار بكل حرية بزعم أن وعيها السياسي لازال متخلفا وانها غير قادرة على التمييز بين برامج مختلف الأحزاب لعدم نضجها السياسي ، ومن تم فهي في حاجة الى المزيد من الوقت لتبلغ الرشد السياسي المطلوب ، وان الهيئات والأحزاب السياسية ذات التوجه العلماني من حقها وحدها التكفل بهذه الشعوب الى غاية تحقيق الرشد المنشود بعد توفر الشروط الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لتطبيق الديمقراطية ،و هذه النظرة الدونية التحقيرية للمواطن العربي تعكس عقلية استبدادية و شمولية رافضة لأي مشاركة شعبية حقيقية.

ان الاعتراف بالأخر والايمان بالتعددية السياسية يشكل خطوة ضرورية في اتجاه اصلاح الحياة السياسية العربية المتردية، ففضلا عن ان هذه التعددية تحفظ الاستقرار السياسي فإنها تؤدي وظيفة أخرى لا تقل اهمية ، ذلك ان المجتمع المعاصر كيفما كانت تركيبته بلغ حدا من التعقيد يستحيل معه على اتجاه واحد امتلاك البرامج والمخططات اللازمة لضمان توفير جميع احتياجاته ، وإقصاء فئة او مجموعة فئات اجتماعية عن تسيير الشأن العام من شأنه كبح الطاقات و ابعاد الكفاءات وافتقاد القدرة على الابداع وبالتالي سيطرة الجمود والتخلف مهما كانت نية الحاكمين حسنة في خدمة بلادهم .

ان التعددية ظاهرة انسانية ملازمة لكل المجتمعات البشرية ومن حق المجموعات الاجتماعية ذات النزعات والميولات المتشابهة ان تعلن عن نفسها وان يكون لها منابرها الاعلامية وقنواتها التواصلية وتنظيماتها المستقلة التي تعبر من خلالها عن الرؤى التي تحملها والخيارات التي تؤمن بها ، بل من حقها ان تتوفر على وسائل تمكنها من تحويل البرامج الى تطبيقات واقعية والتسليم بطموحاتها المشروع في سعيها السلمي للوصول الى السلطة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *