وجهة نظر

فيلم أدور: مقاومة زايد أحماد بين مطرقة الفن وسندان العلم

شكل التاريخ منبعا للإبداع السينمائي العالمي، إذ تم الاشتغال منذ بدايات تصوير الأفلام الأولى على التاريخ، وجسدت أعظم الملاحم والبطولات في استوديوهات التصوير، والفضاءات الطبيعية، بكلفة إنتاجية ضخمة، ومشاركة نجوم سينمائيين من مختلف الجنسيات والأعراق. والجميل في تناول السينما للتاريخ أن أحداث هذا الأخير في ملكية كل المبدعين، إذ يكفي أن يتم البحث والتنقيب والإبداع لإنجاز فيلم تاريخي حول أي منطقة في العالم، وهكذا وجدت الأساطير اليونانية والفرعونية مثلا طريقها إلى الشاشات الكبرى للسينما العالمية.

لجأ المخرجون المغاربة بدورهم إلى تاريخ بلدهم لاستعادة بعض محطاته سينمائيا، وإن كانت النسبة الكبيرة من الأفلام لم تتجاوز القرن العشرين، لأن التقدم نحو الماضي البعيد يكلف إنتاجيا، ويحتاج تركيزا في الإبداع للتمكن من استعادة تفاصيل تلك المرحلة، أضف إلى ذلك انخفاض منسوب الإثارة فكلما ابتعدنا عن الحاضر إلا وحدث انخفاض في هذا المنسوب، بحكم أن الذاكرة الجماعية لم تعد تستوعب الأحداث البعيدة، عكس المرحلة التاريخية القريبة، كظروف الاحتلال الفرنسي مثلا، فلازال هناك استحضار لها في حكايات الأجداد، من خلال سرد حكايات المقاومة للأبناء والأحفاد، وبالتالي يكون الاشتغال السينمائي على هذه المرحلة مصدرا للإثارة، وهذا ما يفسر تجنب الدول السماح للولوج إلى أنواع خاصة من الأرشيف قبل مرور مدة زمنية معينة لتجنب مشاكل تناول تلك الأحداث.

يندرج فيلم ” أدور” 2017 للمخرج أحمد بايدو، وسيناريو زايد أشنا، في سياق توثيق تاريخ المقاومة المسلحة للاحتلال الفرنسي خلال ثلاثينيات القرن العشرين، بالجنوب الشرقي المغربي سينمائيا، وهي مغامرة ليست بالهينة سواء من حيث الكتابة أو الإنتاج والإخراج، وتزداد الصعوبة ما دام أننا أمام عمل سينمائي ناطق بالأمازيغية، حرم من العرض في القاعات السينمائية المغربية.

نشير في البداية أن النقاش الذي دار حول فيلم “أدور” قبل وبعد عرضه قد أفاد الفيلم من جوانب عديدة، ولكنه أيضا أساء له من جوانب أخرى، حين تمت شخصنة الأمور، وخلق نقاش هامشي بعيد عن الفيلم وعن السينما عامة، إذ طرحت أسئلة لا علاقة لها بالموضوع، وبالتالي ترك الفيلم جانبا ودار النقاش حول مسائل أخرى لا ترقى للنقاش الذي ننتظره، ولهذا ارتأيت تأخير هذه القراءة إلى هذا الوقت، خوفا من التخندق في جهة ما حتى من دون قصد، وستذهب قراءتنا إلى صميم العمل الفني قدر المستطاع.

أدور بين التوثيق والتخييل

يصنف فيلم ” أدور ” ضمن الأفلام التاريخية، التي تناولت مرحلة المقاومة المغربية للاستعمار، وهناك أفلام مغربية أخرى من نفس التيمة، وضمنها أفلام اشتغلت على نفس المنطقة، لكنها لم تثر النقاش الذي أثاره فيلم ” أدور”، وهذه نقطة إيجابية للفيلم، وللإبداع السينمائي الأمازيغي عامة، ونذكر على سبيل المثال: فيلم “عطش” للمخرج سعد الشرايبي، وفيلم ” أوشتام ” للمخرج محمد اسماعيل، وفيلم “الطفل الشيخ” للمخرج حميد بناني، وفيلم ” بوكافر 33″ للمخرج أحمد بايدو، وغيرها من الأفلام.

بالنسبة لمن لم يشاهد الفيلم فهو متوفر إلكترونيا، ويسرد فترة من حياة المقاوم زايد أحماد، أحد الأسماء البارزة في مقاومة الفرنسيين بالجنوب الشرقي للمغرب، إلى جانب زايد أسكنتي و عسو أباسلام … وقد أدى دور زايد أحماد الممثل عبد اللطيف عاطف. يحكي الفيلم على لسان ” سعيد أحماد” الطريقة التي انتقل بها زايد أحماد من شخص خاضع للاستعمار إلى متمرد يكبد الفرنسيين الخسائر في الأرواح والعتاد، ويخلق لهم المشاكل الكثيرة، وهو ما جعلهم يوظفون إمكانياتهم لمطاردته، وإلقاء القبض عليه، وقد استغل زايد معرفته بالمجال” المغارات والمسالك” والأشخاص، للتنقل دون إثارة الشبهة، لكنه انتهى رغم ذلك مستشهدا بنيران الفرنسيين بقرية تادفالت نواحي مدينة تنغير شهر مارس 1936.

جمع المخرج بين عناصر التخييل والتوثيق في فيلمه، وأشار في البداية أن ما يحكيه الفيلم مستوحى من أحداث واقعية، وكانت عتبة الفيلم عبارة عن شريط من الأرشيف بالصوت والصورة يتحدث عن الحملة العسكرية الفرنسية بالمغرب وبعض نتائجها، وقد جاء هذا الشريط لوضع المشاهد في سياق ما سيأتي داخل الفيلم، على اعتبار أن المواجهات بين الطرفين امتدت لما يقارب أربعة عقود، إلا أن مضمون الشريط ينتصر للطرح الفرنسي، ويجعل من عمل المستعمرين تحقيقا للأمن والتهدئة والازدهار، وبعد العتبة انتقل المخرج إلى سرد تجربة المقاوم زايد أحماد انطلاقا من رواية رفيقه “سعيد أحماد”، بمعنى أننا أمام أفلمة للرواية الشفوية، لكن المشاهد يرتبك في البداية بين هذه المشاهد التوثيقية والعودة إلى التمثيل أكثر من مرة داخل الفيلم.

لجأ المخرج أحمد بايدو إلى الراوي، والتي نصادفها عند المخرج الجزائري بلقاسم حجاج في فيلم ” فاطمة ن سومر” حول نفس التيمة، لكن بايدو جعل الرواي مشاركا في الأحداث، وهو ما خلق ارتباكا أيضا، فتارة نجده في المعتقل، وتارة نجده حرا طليقا يرافق زايد أحماد في جولاته، يقدم له يد العون ويشاركه عملياته ضد الفرنسيين. عاد المخرج إلى الأشرطة الوثائقية المأخوذة من الأرشيف الفرنسي ليوضح بها بعض النقط ويملأ بها بعض الفراغات، لكن هذه الأشرطة تختلط أحيانا مع مشاهد بالأبيض والأسود عبارة عن ” فلاش باك”.
يحتفي الفيلم باللغة الأمازيغية التي استعملها المقاومون خلال تلك المرحلة مع بعض التعديلات التي فرضتها الضرورة الفنية مثل الكاستينغ، والرغبة في توظيف الأمازيغية الحديثة، وأعاد الفيلم مقاومة الأمازيغ للفرنسيين إلى واجهة النقاش العام، وسمح لأبناء المقاومين وأحفادهم بمشاهدة حجم التضحيات التي قدمت من أجل الحرية والاستقلال، خاصة وأن القنوات التقليدية لتصريف مثل هذا الخطاب التاريخي تلجأ إلى طمس الكثير من الحقائق، وبالتالي غيب مثلا اسم زايد أحماد من الكتب المدرسية، أو أن ذكره يتم بشكل منفصل عن تضحياته، واستماتة رفاقه مثل أمرخوش، وموحى أسعيد وغيرهم.

وجد المخرج نفسه أمام ضرورة سرد قصة مبنية بطريقة منطقية، بعيدا عن الإسقاطات المحلية، تجعل كل من يشاهد فيلمه يتابع بدايتها وتطورها الدرامي ليصل إلى النهاية، ليعرف مصير البطل زايد أحماد، لكن الأحداث التاريخية التي كانت على أرض الواقع والكثير من التفاصيل الهامة، والتي ترويها الرواية الشفوية تفرض مسارات أخرى للسرد، قد تحتاج إلى أكثر من الزمن المخصص للفيلم في نسخته الحالية، وأكثر عددا من الممثلين، وبالتالي المزيد من المال والجهد، لتبقى مقاومة زايد أحماد وباقي الأسماء الأخرى أوراشا مفتوحة للبحث التاريخي العلمي، وكذلك للإبداع السينمائي والتلفزيوني وغيرهما من الفنون.

فضاء الواحة وجماليات السينما .

لجأ المخرج منذ اللقطات الأولى في فيلمه إلى تذكير المشاهد بكون المجال الجغرافي الذي تدور فيه الأحداث، هو المغرب، وهو ما نجح الفيلم في تقديمه، فكل الفضاءات التي التقطت تحيل على المغرب، وبالضبط منطقة الجنوب الشرقي، حيث نجد الواحات الجبلية بمزروعاتها التي لم تتغير كثيرا، إضافة إلى العمارة، التي نوع المخرج لقطات استحضارها لإخفاء بعض مظاهر العصرنة(المساجد)، والإحالة إلى حياة الاستقرار التي كانت لدى تلك القبائل إلى جانب الترحال. وهكذا برزت لنا جمالية الواحة في قصباتها وبساتينها، وأعطت الكاميرا للطرق الترابية حين تعبرها العربات جمالا ملفتا، ولو أن هناك من الباحثين من ينفي وجود ذلك النوع من العربات خلال تلك الفترة.

أعاد الفيلم الاعتبار للواحة كفضاء للتنوع البيولوجي من خلال النباتات والخضروات والأشجار والمواشي والطيور، كما تم تثمين التراث العمراني كقصبة أيت بنحدو ذات الصيت العالمي، دون أن ننسى تثبيت طوبونيميا الجنوب الشرقي مثل تادافالت و تانا و تامتتوشت ( نطقت خطأ فيا الفيلم بسبب صعوبة ذلك حتى في الواقع)، إضافة إلى أسماء الأعلام التي كان تداولها من قبل محليا كأمرخوش و حسى ملال و سعيد أحماد و وعيشة حدو، موحى أسعيد وغيرهم.

الكاستينغ بين تحدي الواقع ورهان إدارة الممثل .

اعتمد المخرج على ثلة من الممثلين المعروفين في الساحة الفنية، خاصة الذين يشتغلون في الأفلام الناطقة بالأمازيغية، وعلى رأسهم الحسين باردواز وعبد اللطيف عاطف وحسن العلوي وسعيد ضريف، وتضمن الطاقم الفني أسماء أخرى كلطيفة أحرار وأنس الباز، إضافة إلى بعض الممثلين الأجانب. اختيارات المخرج تحكم فيها واقع الساحة الفنية الأمازيغية، لكنها لم تكن موفقة كليا، حتى في ظل المتوفر فشخصية زايد أحماد الذي كان مقاوما وهو في الأربعين من عمره، لا تتناسب، والممثل عبد اللطيف عاطف الذي لم يكن مرنا في تحركاته في تلك التضاريس الوعرة، أما الممثل سعيد عامل فقد وجد صعوبة في النطق بالأمازيغية، وخلقت حواراته الثقيلة نشازا في الفيلم، نفس الشيء يمكن قوله عن الممثل حسن بديدة الذي لم يناسبه دور المجند الفرنسي.

فتح عرض فيلم ” أدور” للمخرج أحمد بايدو نقاشا حول مكانة الفيلم الأمازيغي في السينما المغربية، وهي نقطة تحسب له، لكن هذا لا يعني أن أفلامنا الناطقة بالأمازيغية بخير، بل على المبدعين العمل أكثر والاجتهاد لتحقيق أفلام مشرفة، مثل ما فعل محمد أمين بنعمراوي في فيلمه ” أديوس كارمن” الذي كان من بين الأفلام الجميلة التي استمتع بها المغاربة خلال فترة الحجر الصحي بسبب وباء كورونا، على منصة المركز السينمائي المغربي.
محمد زروال /بني ملال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *