وجهة نظر

مسلك الشيخ ماء العينين في الطريقة انطلاقا من شرحه لباب “الأمر والنهي” في نظم منتخب التصوف

في الرسالة “الشريعة قيام بما أمر، و الحقيقة شهود لما قضى و قدر”[1]، و بين التعريفين يغيب البعض في مدارك التفصيل و التقسيم، و الاصطفاف، فيرى بعض غلاة المتصوفة أن الشريعة و أحكامها و ضوابطها إنما خصصت للعامة ممن لا يعقل و لا يرقى إلى حيث اصطف أهل المعرفة الحقيقية ممن خصهم الله بتجليات باطنية لا تظهر إلا لأهل الحقيقة بعد مجاهدة و مكابدة، تخصيص و تقسيم ينفي المعلوم من الدين، شكل حجة كافية لمنتقدي هذا العلم، فمقولة ” من شهد الإرادة سقط عنه التكليف”، تجعل ابن تيمية يصف متبنيها ممن نزه نفسه عن المأمورات و المنهيات بكون عملهم “محاداة الله و رسوله و معاداة له و صد عن سبيله و مشاقة له و تكذيب لرسله..”[2]،

شوش أهل الباطن و الغنوصية على مذهب السلوك و الزهد و مقام الإحسان الصافي، الذي أسهب أهله في التأكيد على تقيدهم بالسنة و التزامهم عمل الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين في أحوالهم و أفعالهم، يقول الجنيد : ” من لم يحفظ القرآن و لم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب و السنة[3]”. و المقصود بالعلم هنا علم التصوف و السلوك، و هذا سبيل أعلام و أوائل مشايخه، قبل أن يتطور و يتشعب باختلاطه مع باقي المذاهب الفكرية و العقدية و الأعراف و العادات و يصبح شيوخه على طبقات و أهله و منتسبوه طرقا و شيعا …و يشوبه الجهل و تلتصق به البدع و الخرافات كما هو اليوم.

رغم هذا المسار التراكمي سلبا، لم يخل هذا العلم من مجددين جاهدوا لتنقية الطريقة و رفعها عن وحل البدع و الجهالات، و من هؤلاء المشايخ شيخنا الشيخ ماءالعينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين، الذي رصد لمنهجه طابعا سلفيا حدد به أركان طريقته بضابط الشرع و مستحسنه:

وذي طريقتنا خذها و ضابطُها… مستحسنُ الشّرع لا سِواه فاتَّبع

و الاقتداء المنوط بالمتصوف المبتدئ الواضع قدمه على أول الطريق، يحدده الشيخ ماءالعينين بقوله” فالاعتقاد الصحيح الذي هو الاساس فيكون على عقيدة السلف الصالح من أهل السنة القديمة سنة الأنبياء و المرسلين و الصحابة و التابعين و الأولياء و الاصديقين، فعليه التمسك بالكتاب و السنة و العمل بهما لأمرا و نهيا أصلا و فرعا….”[4]

ألف الشيخ ماءالعينين في التصوف، أسسه و مقاماته و أحواله و آدابه نظمه ” منتخب التصوف في كل ذي جهل و تعرف”، و شرحه في كتاب بمجلدين تحت عنوان ” مبصر التشوف على منتخب التصوف”، و الجميل في النظم أن الشيخ افتتحه بباب ” الأمر و النهي” ثم باب ” التوبة” ، خلافا مثلا لصاحب الرسالة الذي بدأ بباب ” التوبة”…، و توسع الشيخ في شرح أبيات أول أبوابه في ثلاثين صفحة تقريبا.

كما نظم الشيخ قصيدة ” اسمع و لا تغتر” صائغا سبل الوصول إلى الله، و حمولتها الاصطلاحية و الإشارية تكاد تماثل ما كتبه في المنتخب، و شرحها في كتابه “إظهار الطريق المشتهر على اسمع ولا تغترر”،يقول الشيخ ماءالعينين في قصيدته:

اسمَعْ ولا تغتررْ وما أقول فَع …إن الطّريق إلى الاله بالـــــــــــــــــــــــــورعِ

والزّهدِ والصّدقِ والتّصديقِ والسّهرِ… والخوفِ والجوعِ مع يأسٍ عن الطّمع

والذّكرِ والفكرِ، واعتزالِ مَن غَفلا ….عن ربّه، واقترابِ مَن بِذَيْن رُعِـــــــي

وهَمِّ آخرةٍ، ونَبذِ فانيةٍ، ….ونَظْرِ آتيةٍ في غير مُلتَمِـــــــــــــــــــــــــــــــــــع

و حمل ما تكره النفوس قاطبة….و طرح ما ترغ الآنام مجتمـــــــــــــــــــع

والأمرِ ممتثلاً، والنهي مجتنبًا، ….وقُربِ مُمتَثلٍ، وبُعدِ مُبتَـــــــــــــــــــــدِع

إلى أن يقول :

وذي طريقتنا خذها و ضابطُها ….مستحسنُ الشّرع لا سِواه فاتَّبــــــــــــع

و بما أن تكاليف الشرع مبنية على لفظي ” الأمر و النهي”، فقد جعلهما الشيخ في أول أبواب نظمه عن مقامات التصوف، فقال شيخنا:

بادر لأمر و امتثل بوقته …..و اجتنب النهي بكل سمته

شكر ربنا الملائك الكرام…لفعلهم أمر بنص قد يــــــــــــرام

فالأمر ما استطعت منه فافعلا…و النهي فاجتنبه حيثما جلا

بقدر طاقتك فيهما و لا …تقصرن فعلا و تركا مســــــــجلا

فالشرع كله بني عليهما…أصلا و فرعا و نمي إليهـــــــــما

و إن ترى باب من الأبواب…و غيرها يخرج عن ذا الباب

لذاك فامتثل لأمر و انتهي ….عما نهى عنه و ذا الباب نهى [5]

يشرح الشيخ ماءالعينين البيت الأول في المبصر بقوله:” يعني أنك تبادر لأمر و تمتثله في وقته الذي أمرت به فيه و أنك تجتنب النهي بكل سمته أي طريقه التي تؤدي إليه أو بكل هيئته التي هو عليها من تحريم أو كراهة أو بكل قصد إذا لمست الطريق أو الهيئة و قصد الشيء و الجميع صالح هنا.و اعلم أن الأمر شامل للوجوب و الندب، و النهي شامل للحرام و الكراهة ….”[6] و في خضم شرحه يصف المبادرة في الاستجابة للأمر بقوله:”و اعلم أن مبادرة الأمر لا مثل لها و لذلك نال أبو بكر الصديق صلى الله عليه و سلم ما نال بسبب أنه بمجرد ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالإيمان أجابه كما قال صلى الله عليه و سلم : ” ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت له عنه كبوة غير أبي بكر”[7].

وحول الأبيات الأخيرة من الباب يقول الشيخ ماءالعينين:

“أعني أن الشرع كله بني على الأمر و النهي….و إنك لا ترى بابا من هذه الأبواب الآتية و لا من غيرها يخرج عن هذا الباب الذي هو الأمر و النهي لأجل ذلك فامتثل أيها السامع لأمر و انته أي ارتدع عما نهي عنه….أصل الشرع كله المبني عليه هو الايمان بالله و الأمر به لا يخفى على ذي غباوة، و النهي عن ضده و هو الشرك لا يخفى على ذي تلاوة و ما ينبني على ذلك من أمر بصلاة وصوم و زكاة و حج و جهاد و نكاح و بيع و قصاص و ما ينبني عن ارتداد و إبطال عمل و قتل نفس و زنى و لواط و مساحقة، و كالأمر بالتوبة والذكر و الصبر و الشكر، و بيان ذلك أن التقوى الذي ليس مطلوبا من العباد غيره حاصله اجتناب و امتثال فالاجتناب للمنهي عنه و الامتثال للمأمور به و هو الطاعة أيضا المطلوب فعلها من العباد في قوله ( أطيعوا الله و أطيعوا الرسول) و الوفاء بالطاعة هو الذي فعله بالنجاة من أهوال الذنيا و الساعة”[8]

وقد حرص الشيخ على هذه المبادئ السنية لا في كتبه و تصانيفه بل في حياته و ممارسته التربوية و التدريسية الإصلاحية، فما عرف عنه من أعمال جليلة و وصايا و أقوال مأثورة تعكس نهجه السلفي، فتراه و هو يوصي أبناءه و أحبته و منتسبي طريقته يقول: ” الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد و على آله. و بعد فمن كويتبه أبلغ السلام و أفضل تحية و إكرام إلى أبناءنا و من ينسب إلينا من الأحبة عموما و خصوصا….موجبه إليكم أني أوصيكم و نفسي بتقوى الله العظيم لأنه هو الذي به صلاح الدنيا و الآخرة. قال تعالى ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله…”[9]، و في سيرته بين مريديه و تلامذته يقول ابنه الشيخ محمد الإمام “و كان رضي الله عنه لا يتعرض للكلام في أحد، و لا ينكر على شخص معين، بل إن وجد لفعله مخرجا يعتذر عنه، و يلتمس له وجها جميلا، و ألا فينصح نصحا عاما، و يتكلم كلاما مجملا يفهم من المقصود، و كان لا يقبل من أتباعه و مريديه إلا الاستمساك بصريح الشريعة و المتواتر من النصوص الذي لا يقبل تأويلا، و كان يكره البدع و يحذر منها و كان كثيرا ما يقول: الخير كله في الاتباع و الشر كله في الابتداع[10]”، و قد كانت أغلب تآليف الشيخ في الفقه و أصوله و في الحديث و التفسيو و العلوم الشرعية أكثر مما ألف في التصوف و السلوك مما يعكس حظوته في المذهبين و عذم ركونه لعلم دون الآخر، كما مثل الشيخ بدوره الجهادي صورة مغايرة للصوفي الخامل السلبي اتجاه مجتمعه و أمته، فنهض رغم كبره يستنفر القبائل و يدعو إلى الجهاد و يراسل السلاطين لجلب الدعم و نصرة المجاهدين، و حرص الشيخ على تكريس مبدأ الاستخلاف في الأرض و عمارتها و إحيائها ببناء قصبته السمارة…و لم يشتهر عن الشيخ أنه أقام بعض ما ينكر على الصوفية اليوم من تبجيل للمزارات و تخصيصها بالزيارات و الذبح و المواسم…

ونختم بقصة أوردها صاحب النفحة الأحمدية ” حدثني العلامة المشارك الصوفي الزاهد الناسك الخير النير الشيخ السيد أحمد بن محمد العباسي السناري المجاور للحرمين ذو الجولان في البلاد أنه ما رأى مثل شيخنا أطال الله حياته و أدام عزه و قد أتانا في الساقية الحمراء و معه أناس من أهل مصر و الاسكندرية و سبب اتيانه أنه رآى بعض التلاميذ أصحاب شيخنا أدام الله عزه آمين في الحرمين و رأى استقامتهم و الحمد لله و اشتغالهم بما يعنيهم و سألهم عن أخبارهم و أحوالهم و ذكروا له شيخنا أدام الله عزه و أعجبه ما ذكروا عنه و ما رأى فيهم من تصديق ذلك و قال لهم أني جلت البلاد و لازمت الحرمين عشرين عاما أريد شيخ التربية لا شيخ الأوراد ما وجدته و لا أثره في أحد و الآن وجدته فيكم أثر شيخ التربية و لا بد لي من شيخكم و سافر مع ضعفه حتى أتى شيخنا أدام الله عزه و مكث أشهر…”[11]

[1] الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري، ص 117

[2] مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية – ج 10 : علم السلوك، ص 100

[3] الرسالة، ص51

[4] مبصر التشوف على شرح منتخب التصوف للشيخ ماءالعينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين، ص 459 و 460

[5] نظم منتخب التصوف لكل ذي جهل و تعرف، الشيخ ماءالعينين بن الشيخ محمد فاضل، ص3

[6] مبصر التشوف على شرح منتخب التصوف للشيخ ماءالعينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين، ص 52

[7] نفس المصدر، ص 57

[8] المبصر ص71

[9] المصدر، مخطوط للوصية من موقع الشيخ ماءالعينين الكتروني، المخطوط من مكتبة الشيخ أبي بكر بن تقي الله حسب ما جاء في المصدر

[10] ترجمة الشيخ ماءالعينين بموقع الشيخ ماءالعينين الكتروني

[11] النفحة الأحمدية في بيان الأوقات المحمدية، أحمد بان الشمس الحاجي، جزء 2 ص 67

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *