وجهة نظر

الغرب ما بعد الحداثي وعصر “المواطنة لايت”

ما أشبه ما آل إليه وضع المجتمعات الغربية المعاصرة، بما عاينه أليكسيس دي توكفيل خلال رحلته إلى أمريكا، ولا إخال إلا أن صرخته المدوية – التي تتخذ صورة وصف لواقع حال دولة حديثة العهد ينعم شعبها بالديمقراطية ويرفلون في نعيم البذخ والاستهلاك المفرط ومع ذلك تظهر على وجوههم سيماء من لا يشعر بالسعادة ولا يستلذ طعم الحياة الراضية الهنيئة – تصلح أيضا لوصف حال المجتمعات الغربية راهنا مع ما بين الوضعين من مباينة في الزمن، يقول: “ترى هل كان هذا حظ الأجيال التي سبقت جيلنا؟ هل كان الإنسان يعيش دائما في مثل دنيانا هذه، حيث كل شيء في غير موضعه الذي يجب أن يكون فيه، وحيث الفضيلة في غير أهل العبقرية، وذوو المواهب خلو من الشرف، وحيث يختلط حب النظام بالميل إلى ذوي البطش، والاستبداد، وتختلط عبادة الحرية المقدسة باحتقار القانون، وحيث الضوء الذي يلقيه الضمير على أفعال الإنسان ضوء فاتر، وحيث لم يعد شيء يبدو محظورا، أو مسموحا به، كريما أو عارا، حقا أو باطلا؟” [الديموقراطية في أمريكا، ص 24].

هذا القول الذي يكاد مضمونه ينطبق على زمننا الراهن، عضده جيل ليبوفتسكي وزكى نبوءته التي رأى أنها تجد تجسدها الأقصى في النرجسية ما بعد الحداثية، بالنظر لما عاينه من تشابه بين الوضع الذي عاينه توكفيل ويجلوه قوله، والوضع الغربي الراهن الذي يشهد ابتذالا غير مسبوق سقطت فيه كل القامات من عليائها، وتزحلق كل شيء في لا مبالاة مرتخية. وهذا تحديدا ما سعت وراءه المجتمعات الديمقراطية خلال قرن حيث “أصبحت السلطات أكثر اختراقا ورعاية وتسترا على نحو متزايد، وأصبح الأفراد أكثر اهتماما بأنفسهم و”ضعفاء”، أو بمعنى آخر غير مستقرين ودون قناعات.” [عصر الفراغ، ص 15] فهل يعني هذا أن المنطق الذي أضحى يحكم مرحلة ما بعد الحداثة لا يعدو أن يكون استمرارا للمنطق الذي حكم مرحلة الحداثة، وأن الفروق بينهما ما هي إلا فروق عرَضية لا تمس الجوهر في شيء؟

يعتقد ليبوفتسكي أن المنطق العميق للنزعة الحداثية، وإن كان ثوريا، بالنظر إلى أنه قلَب العلاقة بين الفرد ومجمل النسق الاجتماعي لصالح الكائن الفرد الحر والند للآخرين، فهو يماثل المنطق الذي يحكم مجتمع ما بعد الحداثة، التشاركي والمائع والنرجسي. عدا أن المتعية المتولدة عن سيادة مجتمع الاستهلاك كانت مقتصرة في الفترة الحديثة على عدد من الفنانين المناهضين للبورجوازية، بينما أمست في الفترة ما بعد الحداثية قيمة مركزية مهمينة على الحياة اليومية ككل. إلى حد صارت معه الثقافة المعاصرة تبدو “كدمقرطة للمتعية وكتكريس معمم للجديد، وانتصارا لمناهضة الأخلاق ومناهضة المؤسساتية.”[ص 109] والمتعية تؤدي لزاما إلى فقدان المواطنة، وإلى التمركز حول الذات واللامبالاة بالمصلحة العامة، وإلى غياب الثقة في المستقبل وتراجع مشروعية المؤسسات. وإذا كان المنطق يستسيغ أن تؤدي النرجسية وطغيان عملية الشخصنة على حياة الأفراد إلى تراجع حس المواطنة ونكوص عواطف الوطنية النزيهة القائمة على إيمان ثابت لا يتزعزع، جراء إحلال العناية بالمصالح الشخصية محل العناية بالمصالح العامة، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هاهنا يكمن في الآتي: هل يتخلى الأفراد عن الديمقراطية ويضربون عنها صفحا لاسيما بعد فتور الحس الإيديولوجي لديهم وخفوت صوت النضال وركونهم إلى متعهم الخاصة ومآربهم الضيقة؟

لا يرى ليبوفتسكي ذلك، فهو يعتقد أن الديمقراطية لم تعد مشروطة بالانخراط الإيديولوجي، كما كان عليه الحال في السابق، وهنا مكمن قوتها، بل لقد تركت الشرعنة الإيديولوجية المعاصرة للعصر الإنضباطي مكانها لتوافق وجودي ومتسامح، وأصبحت الديمقراطية طبيعة ثانية وبيئة ومناخا.[ص 135] بمعنى أن الأفراد وإن ذابوا في فضاءاتهم الخصوصية، وعبروا عن استيائهم السياسي والإيديولوجي، فإن ذلك لا يدل بأي حال على تراجع تعلقهم بالديمقراطية؛ فهم لا يصوتون لكنهم يتشبتون بالحق في التصويت، ولا يهتمون بالبرامج السياسية لكنهم يطالبون بوجود الأحزاب، ولا يقرؤون الصحف ولا الكتب لكنهم يتشبتون بحرية التعبير. وباختصار إنهم يبدون امتعاضهم من الشأن السياسي ويُتَفِّهونه بشكل يبعث على الدهشة ويحولونه إلى شيء “مرح”، لكن المفارقة تكمن في كون كل ذلك يحدث داخل حلبة الديمقراطية ذاتها.

واللافت للانتباه في زمن ما بعد الحداثة، أن طغيان النرجسية الفردية وإن كان قد أفرز تراجعا في الاهتمام بالشأن السياسي، فإنه قد أفسح المجال في المقابل لظهور نرجسية جماعية تكمن أهم ملامحها في زيادة الاهتمام بالشأن الجماعي، الذي يشهد عليه تكاثر الجمعيات ومجموعات الدعم والتعاون، وتمتين الصلات والروابط مع مجموعات تدافع عن مصالح مصغرة ومتخصصة جدا مثل تجمعات الأرامل، آباء الأطفال المثليين جنسيا، المدمنين على الكحول، الأمهات السحاقيات… إلخ. وهي “ظاهرة تكشف من جهة عن تراجع الأهداف الكونية إذا ما قارنا بينها وبين النضال الإيديولوجي والسياسي في الماضي، كما تكشف من جهة ثانية عن الرغبة في الاجتماع بأناس يتقاسمون الاهتمامات اللحظية والمحصورة نفسها.” [ص 16]

ولعل ما سبق ذكره يسعفنا في القول بأن المجتمعات الغربية قد دخلت اليوم عصرا مختلفا يمكن وسمه بأنه عصر المواطنة الخفيفة (citoyenneté light) وهي مواطنة تجسد حسب ليبوفتسكي امتدادا للخفة التي طالت مناحي عديدة من الثقافة الغربية؛ كالاقتصاد، والسياسة، واللعب، والتقنية، والتعليم وغيرها، حيث وقع تفريغ تفسيرات العالم من النزعة المذهبية المتصلبة فاضمحلت خطورتها، وتم إدخالها في النشوة الخفيفة للاستهلاك وللخدمة اللحظية.[مملكة الموضة زوال متجدد، ص 244] وامتهنت السياسة، وسقطت النضالية والعناصر النقابية، وأصبحنا في حضرة ديمقراطية أقل ركونا للعقائد الخانقة، وأكثر تناغما وارتباطا بنوعية الحياة وبالحريات الفردية؛ وأشد تنسيقا لروح المواطنة وفق المنطق الاستهلاكي، واجتهدت عملية الشخصنة في شرعنة الديمقراطية كعامل مساعد على تثمين الحرية والتعددية في كل مكان. ولا ينبغي لذلك أن يثير استغرابنا أو يسترعي دهشتنا لأن الواقع يكشف بما لا مزيد عليه على أنه “كلما تنامت النرجسية كلما انتصرت الشرعية الديمقراطية، ولو في شكلها البارد. إذ توجد علاقة قرابة وثيقة جدا بين الأنظمة الديمقراطية، بتعدديتها الحزبية وانتخاباتها والحق في المعارضة والمعلومة الذي تكفله، وبين مجتمع الخدمة الذاتية المشخصن، والتجريب والحرية التوفيقية.” [عصر الفراغ، ص 134-135]

وتبعا لذلك، تكون الديمقراطية قد حافظت على مشروعيتها، لكنها في المقابل فقدت بعضا من قوتها التي لا تبلغ تمامها إلا وهي “محمولة على رغبة في التحرير تكتسب على الدوام حدودا جديدة”، واستبدلت رداءها الثوري القديم الذي كان يفرض عليها اليقظة الدائمة والتحفز المستمر لمحاربة من يتربص بها ويجترئ على مبادئها، برداء أضفى عليها سمة النعومة والبرودة جراء غياب عدو حقيقي كما يقول ليبوفتسكي في وصفها: “لم يعد هنالك حزب واحد يرفض قاعدة التنافس السلمي على السلطة، ولم يسبق للديمقراطية أن اشتغلت دون وجود عدو داخلي معلن (باستثناء المجموعات الإرهابية الأقلية التي لا يتبعها أحد) كما تشتغل الآن، ولم يسبق أن كانت بهذا القدر من التناغم مع الأعراف كما هي الآن، ومع صفات فرد رُوِّض على الاختيار الدائم، ويشعر بالحساسية من السلطوية والعنف، ويعيش متسامحا ومتلهفا للتغيير المتكرر لكن دون مخاطر كبرى.” [ص 134] إنها بتعبير آخر ديمقراطية على مقاس الوضع المشخصن الذي أصبح قدَر الإنسان الغربي المعاصر؛ فهي تخلق في الأفراد تهييجا غامضا، لا يتجه إلى غرض محدد، في صورة حمى مستمرة ومستعرة تظل تدفعهم إلى اللهت وراء مزيد من الطلبات والاحتياجات المتجددة والمتنوعة والتي لم تكن تخطر لهم على بال من قبل، تبقيهم حبيسي دائرة مغلقة ومقفلة بإحكام لا يُعرف لها أول ولا آخر، وتغرس فيهم ثقافة المساواة التي تعيد تثمين الطارئ والضجيج والصراخ والحياة اليومية وتؤدي إلى إعادة تدوير كوني للمعاني والأشياء الصغيرة.[ص 94] ولا غرو في ذلك طالما أن الديمقراطية في ما يقول لويس ديمون تستهدف “استبدال الإنسان المراتبي بالإنسان المتساوي”. [ألان تورين، ما الديمقراطية؟، ص 24] وربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن نبوءة توكفيل التي صدح بها في القرن التاسع عشر والتي مؤداها أن “الغالبية من المواطنين سيستمتعون بقسط أوفر من الرخاء والازدهار، ويظل الشعب كله أكثر مسالمة، لا لأن اليأس قد استولى عليه من قدرته على تغيير أوضاعه إلى ما هو خير منها، بل لأنه صار يشعر أنه في خير ورضى فعلا.” [الديمقراطية في أمريكا، ص 21] لكنه رضا مشوب بمسحة من الكدر غير المبرر، يشي بأنه مجرد رضا وهمي ناتج عما يجلبه الاستهلاك من متع لحظية عابرة، وما يولده هامش الحرية الكبير في نفوس الأفراد من شعور بأنهم قد أمسوا متحكمين في قراراتهم وماسكين بزمام حياتهم. والحال أن الحرية الإيجابية بالصورة الملحوظة في المجتمعات الغربية لَتدعو إلى الحيطة والحذر أكثر مما تبعث على الثقة والتفاؤل؛ فهي بقدر ما فيها من جاذبية، تظل محملة بالخطر الذي من أجلى مظاهره أنها تتيح للنظام فرصة إفراغ الديمقراطية من طابعها التحريري، وقد أُفرغت فعلا، لتتحول إلى ديمقراطية جديدة في لبوس استبدادي – ديمقراطية أمنية – ترفع اليد عن الحريات الخاصة المختزلة في الاستهلاك بأنواعه الاقتصادية والثقافية والسياسية وتزيد من تقييد حركات الأفراد وتحسب عليهم أنفاسهم في الحياة العامة، فكان من جرّاء ذلك أن تحول المواطنون بالتبعية، من المواطنة الصلبة المنافحة عن قيم المواطنة باقتناع فكري راسخ، إلى مواطنة لايت يكفيها منها جانبها الاستهلاكي المحض، وعزلة تغلق عليها عالمها الخاص لتشبع نهمها المتعي في لا مبالاة شبه تامة حيال ما يدور حولها.

* أكاديمي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *