منتدى العمق

قراءة في كتاب تنبيه معاشر المريدين على كونهم لأصناف الصحابة تابعين

غالبا ما يصور نمطيا أن الواصل الصوفي نافر عن الناس ميال إلى العزلة، يحرص الباحث المريد على اقتفاء أثره و فرض  نفسه كمريد، غير أن الصورة قد تبدو مخالفة شيئا ما، فالمتصوف حامل لأمانة دعوة يحرص على تبليغها، يقول الشيخ ماءالعينين في الدعوة إلى الله ” و ( أعلم ) أن اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم باب النجاة و طريق السعادة، قال سهل محب الله على الحقيقة يكون اقتداؤه في أحواله و أقواله و أفعاله بالنبي عليه السلام، قلت فإذا كان كذلك كان دعاؤه إلى الله بالقول و الفعل و الحال وهذه هي الدعوة المطلوبة عند الرجال” ( نعت البدايات ص94)

لا يجعل الإيمان بهذه الدعوة، المستجيب أو المتقبل لها مريدا في أول وهلة، هي مسيرة بأطوار ارتقاء، وبحكم طبائع البشر و اختلاف الهمم، يجد الشيخ نفسه محاطا بأتباع و أصحاب على تفاوت. و لما كان هذا العلم في إحدى شعبه  يخاطب في المريد سبل الاقتداء، سطر مشايخ التصوف ممن سلك باب التأليف،  آدابا على الطالب المبتدئ الالتزام بها و هو يعامل شيخه، و أعظم هذه الآداب سلوك طريق السلف الصالح، يقول  الشيخ ماءالعينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين في كتابه المبصر ” و أما الذي يجب على المبتدئ في هذه الطريقة فالاعتقاد الصحيح الذي هو الأساس فيكون على عقيدة السلف الصالح أهل السنة القديمة سنة الأنبياء و المرسلين و الصحابة و التابعين و الأولياء و الصديقين، فعليه بالتمسك بالكتاب و السنة و العمل  بهما  أمرا و نهيا أصلا و فرعا فيجلعهما جناحيه يطير بهما في الطريق الواصل إلى الله عز وجل ثم الصدق ثم الاجتهاد حتى يجد الهداية و الارشاد إليه و قائدا يقوده…” (مبصر المتشوف ص460)، و هو بذلك يقدم إطارا محددا لطريقته في التصوف، ينبغي على من يأخذ عنه الاقتداء به، و ممن أخذ عنه وتربى على يديه و كان بحق المريد البار للشيخ، ابنه الشيخ محمد الغيث الملقب “الشيخ النعمة”(*)، الذي عايش بيئة الشيخ المحاط بمريده و تلامذته و أبنائه، و أراد و هو في هذا المحيط التربوي العملي وضع منهاج يقتفيه المريد بحضرة شيخه، فجعل من علاقة الصحابة بالرسول صلى الله عليه مثالا يحتذى به لكل وارد لهذه الطريقة.

كتاب “تنبيه معاشرالمريدين على كونهم لأصناف الصحابة تابعين من تأليف الشيخ محمد الغيث بن الشيخ ماءالعينين ( ولد ، فرغ من تأليفه كما قال في خاتمة الكتاب ” و وافق الفراغ منه النداء لصلاة الظهر من يوم الأربعاء الرابع عشر من رجب الفرد عام 1321″  ( ألفه في حياة والده) والموافق لسنة  1903 ميلادية، و طبع طبعة حجرية بعد تصحيح من الشيخ أحمد بن الشمس الحاجي و الشيخ عبد الرحمان الكتاني  و بمباشرة من السيد العربي الأزري بتاريخ 18 ذي الحجة عام 1322 للهجرة بفاس.

يقول الشيخ النعمة في سبب تأليف الكتاب:”نظرت في أحوال معاشر المريدين مع مشائخهم الراشدين، فإذا هي ليست إلا كأحوال الصحابة مع الصادق الأمين، مع أن أصنافهم كثيرة؟، و مقاماتهم و أحوالهم متنوعة شهيرة….فطلبت مني نفسي  أن أبين لها ذلك لتعرفه و تنتبه لما هنالك” ( ص 2-3)

قسم الشيخ كتابه إلى خمسة أجزاء:

  • مقدمة في التحذير من الاعتراض على الشيخ.
  • باب في أحوال المريدين مع الشيخ الداعي كما أحوال الصحابة و قوم الرسول صلى الله عليه و سلم.
  • فصل أحوال المريدات مع الشيخ الداعي كما أحوال صحابيات و نساء أخر مع الرسول الكريم.
  • خاتمة في اظهار الحق للمريد في خواطره التي تعترض له في بعض الأوقات.

استند الشيخ محمد الغيث في تأليفه لكتب نعت البدايات وتوصيف النهايات و فاتق الرتق لوالده الشيخ ماءالعينين، كتاب أسد الغابة، منتخب كنز العمال للمتقي الهندي، الرسالة للقشيري، الفتوحات المكية لابن عربي و قد ذكر كتبا كالمواهب المحمدية  للقسطلاني و ذكر كتبا أخرى لوالده كالمبصر و مفيد الحاضرة و البادية… و دعا إلى الرجوع إليها في باب آداب المريد، كما استدل الشيخ بأقوال عن والده سمعها منه، و ذكر في شواهده من الشخصيات عمه الشيخ محمد المأمون و جده الشيخ محمد فاضل.

مهد الشيخ النعمة للباب الأول بالحديث عن ما تكون عليه الدعوة إلى الله وهي:” الى الإسلام أولا ثم إلى ترك الكبائر ثانيا ثم إلى الصلاح ثالثا أعني السلامة من أمراض القلب ثم إلى الوصلة الله رابعا  بالفناء عن الأكوان و استقرار القلب في شهود الله تعالى عن شهود وجود  غيره و هي أيضا بالقول و الفعل ” ( ص 7)

ثم يقول “ذلك أنه لما كان في علمه تعالى أنه عليه السلام هو أفضل الدعاة إليه و قومه أفضل أصحابهم و قرر في أزله أنهم ينقسمون على أقسام كثيرة و يتصفون بصفات متنوعة شهيرة جعل ذالك سنة في أهل  الدعوة إليه و قومه سواء من قبله عليه السلام منهم و من بعده ليكون الكل متأسيا به عليه السلام و بقومه و انظر في هذه الأمثلة الآتية يتبين لك ذلك…” ( ص10).

ينطلق الشيخ في ذكر أحوال المريدين مع دعوة الشيخ، على نحو تجسيدي لصور وردت في السنة و القرآن لمواقف الصحابة و قوم الرسول صلى الله عليه و سلم، فيقول مثلا ومنهم “من يقول سمعنا و أطعنا وهم المفلحون….ومنهم من يقول سمعنا و أطعنا نفاقا…..ومنهم من يقول إنما يريد هذا الشيخ بدعائنا إلى الله الفضل و الرياسة علينا عند الناس…” و يستمر الشيخ في التفييء إلى أن يقول مثلا “و منهم يقول أكثرت جدالنا…..و من يقول بلسان الحال و المقال لن نومن لك إلا أن ترينا كرامة..ومنهم من إذا ذكرت عيال شيخه يتميز غيظا و لا يقبل ذلك….” ( ص10 و 12)

واستمر الشيخ في سرد أحوال الصحابة الكرام مع الرسول صلى الله عليه و سلم،و في السرد مطلب اقتداء و تأس لكل مريد مع شيخه، في مناح شتى فمثلا يذكر أدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه في احترام أهله و تكريمهم و الشاهد رواية عمر الخطاب و الحرص على حجاب زوجات الرسول بعد وفاته صلى الله عليه و سلم….و منهم من كان يضحك الشيخ كحال نعيم مع الرسول صلى الله عليه و سلم (ص18)، و منهم من كان يتحمل الأذى، و منهم من كان يتكرم على جميع اخوانه بكل ما دخل يده كمعاذ بن جبل (ص 28).

بالمقابل يورد الشيخ النعمة لمظاهر سلبية مستقاة من السنة و الأثر، يطبقها على أصناف من المريدين فيقول مثلا: ” ومنهم من ليس كذلك و إذا قيل له على واظب على صلاة الجماعة يتعلل بالنوم أو بالمرض أو بالاشتغال و لو أنه علم أن هناك  تفرقة شيء من الدنيا لأتى المسجد…” (ص16)، و منهم من يكون في لسانه فظاظة …كمخرمة بن نوفل (ص16)، و من يكون أتى الكبائر….

ولا يقف الشيخ عند الرجال من المريدين، بل يخصص فصلا لأحوال المريدات مع الشيخ، مستندا إلى مواقف لصحابيات جليلات مع الرسول صلى الله عليه أو لعلاقة زوجاته به، فيقول مثلا فمنهم من تحب كشيخها…كميمونة الهلالية (ص36)، و منهن من كانت تكرهه كابنة الجون (ص36)، و منهن من كانت تستحي…ومنهن من كانت تحث أولادها على اتباع الشيخ كالخنساء” (ص39)

ويختم الشيخ النعمة سلسة الشواهد بموقف سرية الرسول صلى الله عليه و سلم معه و يقول في ذلك : ” و ليكن هذا ءاخر هذه الشواهد التي تشهد لانقسام جماعة كل داع على الله كما انقسم من دعاهم الرسول صلى الله عليه و سلم ” (ص45).

في الفصل الأخير و الذي جعله تحت عنوان “خاتمة في اظهار الحق لك في خواطره التي تعترض لك في بعض الأوقات”، عرج الشيخ على بعض من كلام الصوفية عن المشيخة و  الأستاذية و ضروريتها، قضية المبايعة و آداب المريد  و ما يفرض ذلك من احترام و برور و مراقبة للظاهر و الباطن…..

مما يلاحظ في تأليف الشيخ النعمة استحضاره و استدلاله المتكرر بمقولات والده ( الأب- الشيخ)، فمن مقدمة الكتاب إلى خاتمته، كان الشيخ ماءالعينين حاضرا، إما من خلال كتابه نعت البدايات أو من خلال الاستشهاد بكلامه و وصاياه سماعيا، و من ذلك ما أنهى به الشيخ محمد الغيث كتابه: ”  أردت أن أختم لك يا نفسي هذه الخاتمة بوصية رأيت شيخنا الشيخ ماءالعينين أطال الله حياته يحث عليها و هي أيها النجيب* إن أردت التقريب* فخالف الطباع* و اتبع بالاجماع* فان في الاتباع الانتفاع* و في الابتداع الضياع* اجعل التقوى الأساس…..

هذا الكتاب التربوي القيم، الذي جمع فيه الشيخ النعمة تطبيقات و وضعيات تربوية تصف الحالة الحسنة التي يجب على المريد التحلي بها  في تدبيره لعلاقته مع الشيخ  مقتبسا شواهد من السلف الصالح، و في ذلك عبرة الاقتداء و التوصيف لهذا المذهب الذي تقييده بعمل الرسول  صلى الله عليه و سلم و صحابته الكرام.

(*) للاطلاع على سيرة الشيخ محمد الغيث يرجى زيارة رابط ترجمته على موقع الشيخ ماءالعينين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *