أدب وفنون

“طفولة مبدع”.. المنصوري: كانت أمي تكافئني بريال أبيض مقابل خدمة دكان البقالة

طفولة مبدع ” هي نافذة نلتقي من خلالها مع المبدعين المغاربة للحديث عن عوالم طفولتهم، وتأثيرها على كتاباتهم، وما الذي بقي راسخا في الذاكرة من ذلك الزمن البعيد، وملامسة حضور تيمة الطفولة في نصوصهم الإبداعية، هي نوستالجيا لزمن البدايات في دروب الحياة.

حلقة اليوم، مع القاصة والشاعرة سميرة المنصوري العزوزي من مواليد مدينة سلا، حاصلة على الإجازة في الأدب العربي جامعة محمد الخامس بالرباط، شاركت في ملتقيات ومهرجانات ثقافية عديدة داخل المغرب وخارجه، من أعمالها ديوان شعر بعنوان” صرخات مكتومة”، ومجموعة قصصية موسومة بعنوان” كأنثى صحت لتوها”، لها كذلك ديوان قيد الطبع بعنوان” مدارج البوح”، وفيما يلي نصها الموسوم بعنوان ” طفولتي“:

 

“طفولتي .. تلك التلة التي أطل عليها الآن من موقعي، فتلوح لي من بعيد كما يلوح آخر قرص للشمس قبل أن يبتلعه البحر.. طفولة اتسمت بازدواجية ضدية مثيرة حد الدهشة: من جهة فقر يكاد يكون مدقعا، وجدنا أنفسنا فجأة نتخبط فيه.. فوالدي توفي بعد صراع مرير مع مرض خبيث عرفت فيما بعد أنه السرطان، لم ينهك فقط عافيته وإنما طاقته على العمل وأيضا قضى على ما كان قد وفره لصروف الزمان.. وجدت نفسي في سن التاسعة يتيمة وفقيرة.. ولولا دكان بقالة صغير هو في الأصل غرفة اقتلعناها من بيتنا المتواضع لكان مآلنا الضياع.. هذا الدكان بالذات يشكل بؤرة طفولتي.. كنت أعود من المدرسة منهكة من اللهو والعبث طول مسافة الطريق الرملية الممتدة بين الحقول.. فسلا كانت معروفة بكثرة “السواني”.. فأجد والدتي تنتظرني لأحل محلها في الدكان.. الحقيقة لم أكن أحل محلها بالمعنى الحقيقي للكلمة إنما كنت أحرس الدكان لتتفرغ هي لأشغال البيت، أقوم مقامها في المسائل البسيطة وأنادي عليها كلما استدعى الأمر ذلك كاستعمال الميزان مثلا.. وبقدر ما كنت أتضايق من سجني الإكراهي هذا الذي يحد من طاقتي للهو والعدو.. بقدر ما كنت أشعر بالتباهي والارتياح وأنا أرى نظرة الغبطة في عيون أقراني وكيف لا و في متناول يدي كل أنواع الحلوى التي يسيل عليها لعابهم.. كنت أتعمد كلما ناولت أحدهم طلبه من أي نوع من الحلويات أن أضع قطعة في فمي علاوة على ما أحشو به جيبي قبل مغادرة الدكان أو قبل الذهاب إلى المدرسة بالإضافة إلى “ريالي” الأبيض الناصع مكافئتي اليومية، الأمر الذي لم يكن يتسنى لرفاقي من الأطفال والذي كان يجعلني أحقق معادلة عجيبة: طفلة يتيمة فقيرة على المستوى العام للعائلة وللحي الذي نسكنه، وأميرة صغيرة تتباهي على أقرانها بما تحشو به جيوبها من حلوى وحمص وريالات بيضاء ناصعة..

كبرت قليلا وأتقنت مهنة البقالة وأصبح لزاما عليّ أن أعمل بالدكان خارج أوقات الدراسة، وهنا أيضا كانت المفارقة بين كراهيتي لهذا الدكان / السجن ..وحبي له لما يعطيني من امتيازات في الملبس والمظهر الخارجي ومصروف الجيب.

ازدواجية أخرى وسمت طفولتي فقد كنت أكره الموت والفقر.. الموت لأنه حرمني من أبي وأضاف إلى إسمي اسما آخر كان يؤلمني وكان الناس يصرون عليه كنوع من العذاب المجاني: يتيمة.. والفقر لأنه يجعلك تلاحظ في نظرة الآخرين و نبرتهم نوعا من الإستصغار والإحتقار.. نظرة تنفذ إلى الأعماق وتخلف ألما دفينا.. مرة وأنا لم أتخط بعد الحادية عشرة من عمري، سمعت إحدى الجارات تدعم طلب أربعينيّ رام طلب يدي وربما رجلي أو عنقي.. وكانت تقول لوالدتي بثقة ما معناه أنه يريد كسب أجر من زواجه مني.. يومها تساءلت عن معنى الأجر الذي كنت أفهم أنه يتلخص في التبرع بريالي الناصع البياض لمتسول يشيعني بوابل من الدعوات.. وتخيّلت الرجل الذي في سن والدي يقبض على يدي ويجرني وراءه وأمي من خلفنا تعيد سيل الدعوات التي كنت أسمعها من المتسولين.. وتخيلت أن هذا المحسن بعد أن يتزوجني سيغرقني في الكثير من اللعب وألبسة العيد الجديدة .. بعد ذهاب المرأة سألت والدتي إذا كان بإمكان هذا المحسن بعد زواجه مني أن يشتري لي الدمية الكبيرة ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين التي كنا رأيناها في سوق اللعب بمناسبة عاشوراء..

طفولتي مرتبطة أيضا -و بشكل وثيق – بالبحر.. البحر الذي كان بيتنا يطل عليه والذي كان عالما سحريا أنجذب إليه بكل خيالي وأنسج على أمواجه الكثير من الحكايا.. على غرار حكايا والدتي التي كانت كلما سكن الليل أخذتنا في حضنها وحكت لنا ..حكاياتها لم تكن تنتهي.. ورغبتي في سماعها أيضا لم تكن تنتهي.. مع أنها أورثتني خوفا دفينا من عالم الظلام والجن والأرواح الشريرة.. خوفا ما زالت بعض أثاره تؤثر على أحلامي حتى اليوم.. كنت أحب بالخصوص حكاية” السبع بنات” اللواتي يشردهن أبوهن في الغابة بإيعاز من زوجته التي تزوجها بعد موت أمهن.. وإلى الآن كثيرا ما يتردد في أذني صدى صوت والدتي وهي تنشد بلحن حزين على لسان السبع بنات : “كنا سبع بنات كيف الودعات // بابا تلفنا فغابة البلوط ربي هو يتلفو”.

كنت أهيم مع لحن والدتي وأشعر أنني أكثر حظا من ” السبع بنات” وأن الموت كان رحيما بي لأنه عندما قرر أن يخطف أحد أبويّ لم يحرمني من أمي، وإلا لكان أبي تزوج من امرأة شريرة تدفعه أن يتوّهني في غابة البلوط التي لا شك أنها بعيدة جدا عن بيتنا.

في الليل يعتريني الخوف من الظلام والجن واللصوص وكائنات الحكايا الشريرة.. وحده حضن أمي كان قادرا أن يشعرني بالأمان و يجعل خوفي يتبدد فأطمئن وأسرح مع هدير البحر إلى أن أغط في نوم عميق هانئ، تغيرت الأحوال وتحقق ما لم يخطر على البال وما زلت أحن إلى تلك الطفلة التي كنتُها، والتي ما زلت أحسها قابعة بداخلي ترفض أن تكبر و… ويبلع البحر آخر شعاع من شمس الغروب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *