مجتمع

نوابغ مغربية: إدريس بن محمد العمراوي.. رحلة الصعود من نسخ المخطوطات إلى السفاريات العابرة للقارات

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 19: إدريس بن محمد العمراوي.. رحلةُ الصُّعود من نَسْخِ المخطوطات إلى السِّفاريات العابرة للقارات

يَرتفع بنسبه إلى أسرة ابن إدريس الشَّريفة، حتى يتَّصِل بالأدارسة العلويين مؤسّسي الإمارة الإدريسية الشَّهيرة. لم يقِف الـمؤرخّون على تاريخٍ دقيقٍ ومُتَّفَقٍ عليه لميلاده، فيما يُرْجِع بعضُهُم مَوطِن ولادته إلى مراكش، رغم جِذره الزّموري حيثُ أقام أسلافه وأجداده في أزمور منذُ ظَهَر المغراويون على الأدارسة.

تَربّى في كنفٍ والدٍ ورِثَ المكانة العلمية والاجتماعية والقُرْب السِّياسي من دار المخزن كابِراً عن كابِر، ونشأ تحت عناية خاصّة أهَّلَـته لممارسةِ دَور نافع للدّولة والمجتمع لاحقاً.

ارْتَبط بكُتِب أبيه تَعلُّقاً وتَـخَلُّقًا، وتَرعْرع على حبِّ الخطّ العربي الأصيل، وإتقان القراءة، فَمَالَ في شبابه إلى نَسْخِ المخطوطات والعمل بالوِراقة، وهي ما سيصير مهنته الأولى قَبل تولِّيه مهامَّ سياسية ودبلوماسية رفيعة.

تَذكُر المصادِر التي تَرْجَمت لهذا العَلم الفذّ من أعلام مغرب القرن التاسع عشر (إدريس بن محمد بن إدريس العمراوي) أنَّه استَهَلَّ مِشواره الـمِهني بتَدْريس طَلَبة الـمْـسيـد نيابةً عن أبيه، ثمَّ بنَسْخِ الكُتُب، يَنقُلها بخطِّه الجميل، ويَبيعها للراغبين فيها، والـمُولَعين بالمصنَّفات التراثية الجليلة، فانْشَغل زَمناً بنَسْخِ صحيح الإمام البخاري نُسَخا عديدة، ونُسخةٍ من كتاب “الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى” للإمام (القاضي عياض)، ونُسخَتان مِن كتاب “القاموس الـمحيط” لــ(الفيروز أبادي)، مع ما يتطلَّبه ذلكَ من جُهدٍ بَدني وتركيز ذِهني، أكْسَباه ثراءً مُحترَماً ومكانة علمية مُحترَمة في أوساط المراكشيين وطَلبة العلم الفاسيين والسّوسيين وغيرهم.

كان لمهنة النِّساخة دور كبيرٌ في إثراء ذِهنية (إدريس بن محمد) وتوسيع مَداركه العلمية والشرعية والحِرَفية كذلك، وانفتاحه على الإرث الفكري والدّيني واللُّغوي الذي كانت تزخر به مكتبات المغرب آنذاك الخاصة وتلك التي في حُكم الوَقف، مع ما عُرِفَ عن الرّجل مِن اهتمام بالِغ بالشِّعر؛ قراءةً وإنتاجاً، حتّى عَدَّه بعض الدَّارسين الـمعاصِرين نابِغةَ شعراء العصر العلوي.

درَسَ (إدريس) في القرويين، وجَــمَعَــتْهُ زَمَالة مع المؤرِّخ الشّهير والوزير الأسبق لدى السلطان سليمان (محمد بن أحمد أكنسوس1796-1877)، دامت لسنوات. وفي جامعِ القرويين تَلَقَّى دروساً في عِلم الحساب على يدي الشيخ (محمد بن الطاهر بن أحمد الحبابي). وقد عَدَّد المؤرِّخون لِـتَــرَاجِمِ الأعلام؛ أنَّ مُتَرْجَـمَنَا هذا قد أَخَذَ مختلِف العلوم عن جِلّة مِن العلماء؛ ذَكروا منهم (محمد اليازغي)، (محمد بن الطاهر العلوي)، (حمدون بن الحاج)، (عبد القادر العلمي)، (الطيب الكتّاني).

ونظراً لاحتكاكه بالمعارِف، وانفتاح ذهنه على مُجْرَيات الوقائع مِن حوله، واتّصاله بعددٍ من العلماء والطّلاب الـنّجَباء؛ فقد تَـمَكَّنَ مِن الإحاطة فهْماً وإدراكاً لجُملة السياقات الحاكِمة في منطقة الشمال الإفريقي وقتئذٍ، ومِن ثَـمَّ تأثُّرهُ النفسي والذِّهني بما آلت إليه أوضاع جيران المغرب، لا سيما ما كانَ لاحتلالِ فرنسا للجزائر لسنوات، وإلحاقها الـهزيمة بالجيش الـمغربي في موقعة “إسلي” سنة 1844، أثَرٌ مُشابِهُ لما كان للنكسة العربية على ذهنية المثقّفين العرب والنخبة الفكرية والسياسية والدينية في العالم العربي لما بعد 1967.

سنة 1848 ستكون فارِقة في مسار الشّاب المتوقِّد ذكاءً وفِطنة، والنّاهِل تجربةً وعلماً من والِدِهِ الذي ستُدْرِكه الـمَنِـيّة في ذات السنة المذكورة، ونَظراً لما كان يَشْغَـلُهُ (إدريس) مِن منصبٍ هامٍّ في الجهاز المخزني؛ فسيختاره السلطان (عبد الرحمن بن هشام العلوي) كاتِبًا خاصا بالقصر الـسُّلطاني، وسيُقرِّبه منه حينَ انتَقل بعاصمةِ مُلكه إلى (فاس)، وسَـيفتح له الطَّريقَ لإبراز نبوغه وتثبيتِ موقِعه. الأمر الذي سيَتعزّز مع مجيء السّلطان الجديد (محمد بن عبد الرّحمان 1859-1873)، الذي سيُرقِّي (العمراوي) بتعـيـيـنِه وزيراً للخارجية، أو الشؤون البرّانية كما كانت تُدعى وقتئذٍ. وذلكَ تقديراً لحصافته، وأمَلاً في اضْطِلاعه بدورٍ فعّالٍ ومُثْمِرٍ في سياقِ ظَرفية داخلية ودولية حرِجة، عنوانها الكبير؛ تأثيراتُ هزيمة إيسلي (1844)، وتحديات حرب تطوان (1859-1860)، ومطامِع إسبانيا وفرنسا النّابليونية في مصر وشمال إفريقيا؛ ومنها المغرب الأقصى.

العيش في كنف القَصْر ودار المخزن كاتِباً فَوزيراً؛ مَكَّن (إدريس العمراوي) مِن ثقافة سياسية ثَرِية، وحَفَّزه لمزيدِ عِلْمٍ وارتباطٍ بالكُتب والمخطوطات، وتدوينِ الشِّـعر، وأتاح له فُرَص إقامة علاقات مع عِلْية المجتمع المغربي ونُخبته العالِمة والدِّينية، فَجَمَعَـتْهُ بِشُعَراء وعلماء عصره صداقة ومَودّة، ومنهم أساساً الشاعر الزّجّال (عبد القادر العَلمي)، والصّوفِّي الـمُرَبِّي (مولاي عمرو العمراني)، والفقيه (أحمد الحرَّاق) شيخ الطريقة الحراقية الذي وَصَف (إدريس) في رسالةٍ ما تزالَ محفوظة بأنّـهُ “الأديب البَليغ، الدَّرّاكَة الفهَّامة، الذّاكِر الـمُجِدّ الأفضل، الجامع بين الحقيقة والشّريعة الأمثل).

كما أنَّ هذه الشَّبكة الهامة مِن العلاقات الاجتماعية والعِلمية، والحضور الدّائم في القصر السلطاني والقُرْبِ من دوائر الفِعل السِّياسي؛ إنتاجاً وممارسةً؛ غَـلَّب لديه الدّبلوماسية في التعامل مع مكوّنات المخزن المغربي والسلطان وممثِّلي الدّول الأجنبية. ولـمّا هَمَّ السلطان (محمد الرابع) بـفتْحِ بابِ التواصل الدِّبلوماسي مع فرنسا، وقَع اختياره على كاتِبِ والدِه ووزيره في الخارجية، (إدريس العمراوي) فبعثَ به سفيراً إلى باريس.

أثناء سِفارةِ السيِّد (العمراوي) إلى نابليون بونابرت، والتِقاءه بأعيانِ فرنسا ووجهائها في مقامِه الذي طالَ أزيد من أربعين يوماً؛ حَـقَّقَ فيه رغبة السلطان وأتمَّ مَهمته السِّفارية-الدبلوماسية، ولمْ يَـتَخَلَّ عن شَغفِ القراءة والاطلاع وحبِّ التّواصل المعرفي مع نخبة باريس، بل جَعَل تلك الأيام فرصتَه الثّمينة للاطِّلاع على الأحوال السياسية والاجتماعية والعِلمية لفرنسا، والوقوف على تنوّعِ تجربتها الفكرية والفلسفية والقانونية، وتَضْمينِ ملاحظاته وجملة الأفكار الجديدة التي حصَّلها في بلاد بونابرت؛ في كتابٍ شامِل أسْمَاه “تُـحفة الـملك العزيز بـمملكة باريز”، وقَـدّم عصارة رحلته هاته بين يدي السلطان بعد عودته للمغرب، وأنارَ ذِهنية المخزن المغربي بجوانِب التَّقدّم العلمي والثقافي والفكر السياسي وسَـيْرِ الثورة الصناعية بأوربا الغربية، وتطوّرات الجانب العسكري في فرنسا، وأحَاطَه علماً بجديد المختَـرَعَات فيها، وعلى رأسها التِّلغراف وآلة الطِّباعة، التي التَمَس مِن السلطان محمد بن عبد الرحمان التَّعجيل باقتنائها.

ستجِدُ ملاحظاتُ واقتراحات السّفير إدريس العمراوي تَرجمة عملية لبعضها لاحِقاً، مع السلطان الجديد، الحسن الأوّل (1836-1894)، الذي أنفذَ البِعثات الـعِلمية إلى الأقطار الأوربية والآسيوية والعربية. وكما كان لهذه الرِّحلة السِّفارية والتجربة العِلمية أثرٌ في تكوين شخصية المثقّف العمراوي؛ كان لها أيضاً نصيبٌ من إعلاءِ مَوقِعه في سلُّم النّخبة الـمخزنية، حيثُ أُعيدَ ابتعاثُه سفيراً إلى إسبانيا، ثم كُلِّفَ بإصلاح جهاز القضاء من لدُن السلطان الحسن الأوّل، فأبانَ عن حِنكة وروح مهنية عالِية في التعامُل مع مجال حسَّاس، وكَشْفِ مواطِن الفساد فيه، ومحاولاتِ إصلاح ما يمكن إصلاحه.

لم يَكن هذا المشوار العَريض بالإنجازات والنّجاحات لـيَمُرَّ دونَما عَنَتٍ ومَشقَّة وحَسد الأقْربين والأبْعدين، فنالَ الرَّجَلَ حَظٌّ تَعِسٌ من المحنة، بحيثُ دُبِّرَت له مكيدة، واتُّهِم _ معية أفرادٍ آخرين _ بتدبير فتنة ضدّ السلطان، الأمر الذي أدّى إلى عَزْله مِن منصبه، فاسْتَعْصَم في بيته فيما يُشبِه الإقامة الـجبرية الاختيارية مدة أربع سنوات، نالَه فيه من كلامِ النّاس وتهكّمهم الشيء الكثير، إلى أنْ تَبَيَّن للسّلطان تهافُت دَعوى الخيانة التي اتُّهِم بها (إدريس) فأعادَه إلى منصبه وأغْدَق عليه.

كان هذا العَفو مَدعاةٍ لاستِئناف النشاط العلمي والسياسي، فواصَل الكتابة، والنصح لدارِ الـمُلْكِ، ومناهَضة الاستعمار الفرنسي للجزائر بالشِّـعر والكلمة، ومجالَسة العلماء ذوي العقول النيِّرة، للتفاكُر فيما من شأنه إصلاح واقع الحال، سياسةً وتدبيراً وقَضاءً ونِظاماً وتعليماً.

وبعد حياةٍ عَريضةٍ رَفعت إدريس إلى مَصافِ السِّياسيين الــمَهَرَة والأدباء الطُّلَعة في العصر العلوي الممتد؛ توفي مقتولاً يوم 5 يونيو 1876 بمدينة الرباط، ودُفن بضريح سيدي فاتح.

رحمه الله وأثابه الجزاء الأوفى.

مصادر ومراجع:

* (بن تاويت) محمد: “الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى“، نشر وتوزيع دار الثقافة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1982، نسخة إلكترونية.
* (العبّاس) بن إبراهيم السملالي: “الإعلام بمن حَلّ مراكش وأغمات من الأعلام“، مراجعة عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الطبعة الأولى 1993
* (غرّيط) محمد: “فواصل الـجمان في أنباء وزراء وكُتّاب الزمان“، الطبعة الأولى 1346 هجرية، الناشر عبد العزيز بوطالب – فاس، المطبعة الجديدة، الطالعة – فاس.
* مجلة “دعوة الحق“، العددان 121 – 122، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.
* “معلمة المغرب“، مجموعة مؤلِّفين، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الطبعة الأولى 1989، ص: 6189، نسخة إلكترونية.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

* الصورة من الأرشيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *