منتدى العمق

هل سيطر التافهون على العالم؟‎

لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة – اى مرونة وقابليه للتشكل- وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة…
” آلن دونو”

عندما أردت البحث عن الأسباب الحقيقية وراء انتشار التفاهة وتسيد التافهين للمشهد العام، وجدت العديد من المقالات البعض منها يحمل المسؤولية للمتلقي الذي يدعم المحتوى التافه عبر المشاهدة والمتابعة، والبعض الآخر يضعها على الإعلام الذي يخصص مساحات شاسعة من مادته الإعلامية للتافهين..

من المسؤول الحقيقي؟
هل المتلقي؟
أم الإعلام؟
أم هناك عوامل أخرى؟

لقد انتصر التافهون وتصدروا المشهد الإعلامي والفني والسياسي عن غير استحقاق،شكلوا شيوجا لاتقهر وقادوا غارات على مواقع التواصل الاجتماعي وأغرقوها بالمحتوى التافه، تمسكوا بزمام الأمور واعتلوا مراكز القرار في مناصب جد حساسة ومصيرية.وأقبضوا سيطرتهم على الإعلام وأضحت القنوات التلفزية والإلكترونية تلهث وراء التافهين بلهفة غريبة!!

الهدم والبناء:
إذا اقتحم التافهون مجالا معينا فإنهم يهدمون قوانينه و يجردونه من أخلاقياته و يسقطون قيمه، ويحلون محلها قوانين أخرى وأخلاقيات أخرى وقيم أخرى،كلها تافهة
مائعة و منحطة.

الفن:
ولجوا إلى عالم الفن من أوسع أبوابه وقلبوا معاييره رأسا على عقب، في الموسيقى مثلا، في الزمن الجميل لأباطرة الأغنية الطربية كان معيار التميز هو توفر الموهبة وصوت عذب متعدد الطبقات. وكنا نجد مغنيين ملتزمين بقضايا عصرهم، تعبر أغانيهم عن قضايا وجودية ووضعيات اقتصادية و اجتماعية صعبة. أما المعيار المتبع اليوم هو ( مظهر مثير،جمال مصطنع،شخصية مفبركة،كلمات عبثية لامعنى لها،قصة شعر جذابة،وجه وسيم،عطر غال تستطيع شمه على بعد كيلومترات،بزة فاخرة،حذاء لامع) أما الصوت فيمكن تعديله في الأستوديو!

السياسة:
لم يسلم عالم السياسة هو الآخر من التافهين، اقتحموه ثم أفرغوه من محتواه، هدموا خطابه العلمي الهادف وأحلوا محله “خطاب التفاهة” حتى صار مجالا للبهرجة والتسطيح واللغة الخشبية.ولعل خير مثال على ذلك هي الخرجات الإعلامية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”

الثقافة:
“هوت شمس الثقافة أرضا، حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة”، نستعير هذه المقولة للكاتب النمساوي كارل كراوس للدلالة على سيطرة التافهين على عالم الثقافة.تسللوا علانية وفي وضح النهار بدون خجل إلى حرم المحيط الثقافي ونجحوا في تسطيح الثقافة وتمييعها، وأطاحوا بالمثقفين ورموا بهم إلى هامش الحياة،يستهزئون بهم ويسخرون منهم. على سبيل المثال نجد أن بعض المصطلحات من قبيل “العمق” أصبحت محط سخرية،ويطلقونها على شخص ما بغرض الإستهزاء!!

لاتفكر، ولاتنتقد،ولاتستنكر، ولاتبدع،ولاتبتكر.فقط تماهى وانسجم أو اصمت وراقب… شعارهم “السطحية والتمسك بالقشور”..

لما سيطرت التفاهة على مواقع التواصل الاجتماعي وأحكمت قبضتها عليها، صار لزاما على القنوات التلفزية أن تنجرف مع التيار مجبرة لا مخيرة! وفق نظام خفي متكامل وممنهج يلقي بقيوده على العقل،يخدره ويجري له عملية زرع “رغبة جديدة” شاذة!! ودخيلة على عالم الرغبات.ثم يجعله يتوجه للبحث عن التفاهة و يستهلكها بشراهة،يتعقبها بحرص شديد وغريب في نفس الآن أينما حلت أو ارتحلت،يتلذذ باستهلاكها بحيث تتحقق لديه حالة من الإشباع لرغبة ملحة! وهي التفاهة!

مواقع التواصل الإجتماعي:

لقد وفّرت شبكات التواصل الاجتماعي لهؤلاء فرصة للظهور والانتشار، بعدما تطبّع الناس تدريجيا مع هذا العبث، من خلال الدفع بنكرات ومجاهيل ومغمورين لم يكونوا شيئا إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية؛ نتيجة قيامهم بأعمال “عبثية” وأشياء “تافهة”.

لا تنحصر صناعة التفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب؛ حتى إن ظلت مصدرها الأول بلا منازع، بل تتعداها إلى مسألة تسطيح الثقافة، وإلغاء القيم، والتباس المفاهيم… حينئذ تكثر الوجوه وتتعدد، لدرجة يختلط فيها المحتوى الهادف والبناء بالمحتوى التافه والهدام ، فلا يُعرف أهل العلم عمن لبسوا ثوبه.

ما إن ينشر فيديو منعدم الذوق لا أخلاقي تجد الآلاف من المتابعين يشاركونه ويروجون له بسرعة جنونية حتى يكتسح مواقع التواصل الاجتماعي. عندما نسأل أحد هؤلاء الأشخاص فنجد الإجابة كالتالي:

أنا لا أشجع التفاهة بل أرفضها، ولكن من باب الفضول أشاهد المحتويات التافهة لكي أنتقدها واستهزئ بها!!

عندما يشاهد شخص ما فيديو يحتوي على محتوى تافه و غير أخلاقي يدافع الفضول!فإنه يساهم في انتشاره من خلال تسجيل مشاهدة ومتابعة!

وفي الأخير نجده ينتقد المحتوى التافه ويستنكره! مفارقة عجيبة!

ما الدوافع الخفية التي تدفع بالمرء إلى متابعة ومشاهدة الفضائح والتفاهات بشكل غريب؟

هل يمكن أن نقول بأن الإنسان يميل بطبعه إلى المحتوى التافه؟ أم هناك نظام متكامل وممنهج يحكم توجهات الأشخاص؟

هذه كلها أسئلة تحتاج إلى التأمل وإلى تحليل معمق لنستطيع الإجابة عنها..

من جهة أخرى نجد أن وسائل الإعلام تختار مادتها الإعلامية انطلاقا من الذوق العام للمتلقي، على سبيل المثال:
المشاهدات ترتفع بشكل صاروخي فيما يخص المحتويات الفضائحية والماجنة!
وتقل بشكل كبير إذا تعلق الأمر بالمحتويات الثقافية والفكرية الهادفة.
بهذا المنطق سنزيل عبائة المسؤولية عن ظهر وسائل الإعلام وسنلقيها على ظهر المتلقي!

من جانب آخر يمكننا القول بأن المتلقي عندما يتواجد داخل الفضاء الإفتراضي يكون مهيئا للإستهلاك الأعمى، ثم يصادف الكثير من المحتويات التافهة والقليل من المحتويات الهادفة وبالتالي ينساق وراء التفاهات بشكل لاشعوري!
وهنا أيضا يمكننا أن نزيل المسؤولية عن المتلقي ونلقيها على وسائل الإعلام!
إننا ندور حول حلقة مفرغة!
مما لاشك فيه أن لأمر أعمق من ذلك؟ ونحن نطوف حول السطح بتحليلات قشورية!
ما الحل لمواجهة هذه المعضلة؟

على الأرجح لايوجد حل لحد الآن لأننا أمام نظام متكامل وممنهج استطاع أن يغزو جميع مجالات الحياة العامة.بحيث صارت قاعدة النجاح فيه على حد قول الفسلسوف الكندي آلن دونو صاحب كتاب “نظام التفاهة” هي “إن تلعب اللعبة” لم يعد الأمر شأنا إنسانيا ولا مسألة بشرية مصيرية،بل هي مجرد “لعبة” وهي قاعدة غير مدونة ولا نص لها بل فقط استقرت في الأذهان وتكررت على مستوى الممارسة!!

وكردة فعل جد ضعيفة،انتشرت في الآونة الأخيرة في عديد من الأماكن لافتات مكتوبا عليها “توقف عن جعل الناس الأغبياء مشهورين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *