وجهة نظر

مستقبل الخيار الديمقراطي ومساهمة حزب العدالة والتنمية فيه

من ندوة حول: أي شروط سياسية وقانونية من أجل تكريس الخيار الديمقراطي بالمغرب: قراءة في مذكرة حزب العدالة والتنمية

مصطفى يحياوي،

أستاذ الجغرافيا السياسية والاجتماعية بجامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء

 

تمهيد

في هذا المداخلة، سأحاول جهد الإمكان التقيد بصفتي الأكاديمية، باحثا غير سياسي، تفرض عليه منزلتُه حيطةً في التحليل والتجردَ من أي تقدير سياسي محسوب على حكم قيمة أو انتماء حزبي خاص. ما سأقوم به هو أن أجيب عن سؤال مستقبل الخيار الديمقراطي ومساهمة حزب العدالة والتنمية فيه بالاعتماد على منطلقين اثنين تؤكد معطياتهما الأبحاث الميدانية والخبرات الدراسية  المنجزة خلال على الأقل الثلاث سنوات الأخيرة:

المنطلق الأول: المفارقة بين المنحى العام الذي تتجه إليه تحولات الطبائع الاجتماعية في ممارسة السياسة، أو على الأقل ما يحسب عليها من منطق الاهتمام بالشأن العام وصراع القوى المجتمعية، وبين الواقع السياسي الذي أفرزته دورة الاستحقاقات الانتخابية ما بعد دستور 2011.

والمنطلق الثاني: رهان الديمقراطية الانتخابية في ضوء استحقاقات 2021 الموسومة بسياق أزمة اجتماعية واقتصادية حادة بسبب وباء كورنا-19، وصراع معقد للمصالح، وغياب لرؤية سياسية جامعةٍ للفاعلين الأساسيين، قادرةٍ على تعبئة المجتمع وتحفيزه على الثقة في جدوى المشاركة السياسية.

من خلال هذين المنطلقين، سأحاول تحليل حضور حزب العدالة والتنمية في المشهد الحزبي الراهن وتصوره لورش إصلاح النظام الانتخابي، وسيكون الأمر مناسبة لإجراء مقارنة مختزلة بين تصور الحزب وتصور الأحزاب الأخرى، خاصة أحزاب المعارضة (الاستقلال والأصالة والمعاصرة والتقدم والاشتراكية).

المنطلق الأول

1 على المستوى السياسي، لقد زكت الدورةُ الانتخابيةُ لما بعد دستور 2011 التوجهَ العامَ لمسار الإصلاح السياسي لما بعد انتخابات 1997، كما ثبتت خاصية انتظام العملية الانتخابية كإرادة سامية للدولة، وللملك على وجه الخصوص، باحترام اطراد المواعيد الانتخابية، فأصبحت بذلك السمة المميزة للسياسة المغربية، ومدخلا حقيقيا للاتجاه نحو انتخابات ذات مصداقية وذات جدوى من ناحية التداول على السلطة.

فبينما كانت الانتخابات “موضع نزاع” كأداة للسلطوية حتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين، أكدت الاستحقاقات الثلاثة المنظمة بين 2011 و2016، أن المغرب قد أنشأ نظامًا انتخابيًا بإمكان استثماره أرضيةً أوليةً لتثمين المشاركة السياسية للأحزاب، والتقدم بشكل أو بآخر في مشروع ملكية برلمانية مستأنسة بالوضع الاعتباري للملك في سلم التراتبية المؤسساتية للدولة؛ بمعنى آخر نحن أمام نظام انتخابي يكرس واقعا إصلاحيا تراكميا قابلا لأن يُبَرِزُ إرادة الناخب مدخلا وحيدا لإفراز تمثيلية حقيقية للأمة. من هذه الناحية، يمكن القول، أيضا، أننا أمام إرهاصات تحول بنيوي في نظرية القيمة الجوهرية للسياسة الانتخابية بالمغرب، أساسها نمط اقتراع نسبي بإمكانه إتاحة الفرصة لتطوير منافسة انتخابية شفافة بين الأحزاب من جهة، وتوسيع قُطْرِ دائرة تسيس التصويت الانتخابي، خاصة في المدن المتوسطة والكبيرة، والتضييق على الاستثمار السلبي في تناقل الأصوات غير المسيسة، من جهة ثانية. بيد أن هذا التحول الإيجابي لم يستتبعه تقدمٌ ملحوظٌ على مستوى الآثار السياسية للثنائية القطبية التي أفرزتها تلك الاستحقاقات، كما لم يتمخض عنه اتفاقٌ سياسيٌ بين مكونات أغلبية منسجمةٍ -عضويا- ومبينةٍ على مشترك برنامجي مقيدٍ بتعاقد انتخابي يحترم إرادة الناخب.

نتيجة هذا التحول “السريع” وغير المتوافق عليه بشكل صريح بين الفاعلين الأساسيين المعنيين بتدبير المسار الإصلاح السياسي بالمغرب، أننا أمام مأزق تعارض في حصاد المرحلة: من جانب، نتقدم من حيث أن القيم غير المباشرة للانتخابات تدفع في اتجاه تطوير نقاش أكبر حول معنى الديمقراطية وممارسة السياسة من منطق مؤسساتي؛ ومن جانب آخر، نتراجع من حيث أهمية التنافس الانتخابي بين الأحزاب في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب باستعمال الوسائل الديمقراطية الشفافة والنزيهة، أي أننا أمام عملية انتخابية تؤدي في آخر المطاف إلى إعادة إنتاج العلاقات السائدة في النظام السياسي المحافظ والمحترز من التفاعل التلقائي مع إرادة الناخب، والتي تقوض أي قيم مجردة غير مباشرة يتم إنتاجها في نفس العملية. الأمر الذي يمكن اعتباره ضعفًا متأصلًا في أداء الأحزاب في مختلف محطات المسار الإصلاحي للنظام السياسي المغربي، وهو ما حال في المحصلة دون إنشاء قوة ديمقراطية للتغيير بإمكانها أن تؤدي إلى تثبيت نهائي للديمقراطية.

2 على مستوى التحولات المجتمعية، نحن أمام واقع يتصور فيه الفاعلون الأساسيون حلولا بمراعاة “طقوس” و”عادات” و”مواضعات” اشتغال العقل السياسي “التقليدي” للدولة المركز على السلطة والحكم وعلاقة الأحزاب بهما، بينما فئة عريضة من المجتمع، خاصة الشباب، غير آبهة بجدوى تبئير الحلول على الصراع على السلطة. في اعتقادي، لقد وقع تحول مهم في مضمون الاحتجاجات الاجتماعية ما بعد الربيع الديمقراطي وما تلاه -تدريجيا- ابتداء من نهاية 2016 في الريف وجرادة وزاكورة، زقد انتقل من مطالب شعبية محلية قد تؤول عند الممارسين للسياسة على أنها مرتبطة -عضويا- بالتحليل الذي قامت عليه مطالب الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي لدى القوى الديمقراطية، خاصة الأحزاب الوطنية والحركة الحقوقية، إلى مضمون يدور حول نوع من “العدالة الاجتماعية” مقرون بمطالب فئوية وحقوقية اجتماعية واقتصادية ذات علاقة عضوية بـ”العدالة المجالية” وبـ”إعادة التوزيع الجغرافي للثروة” وبالتنمية الترابية المبينة على التحفيز على تثمين الثقة بمركزية الاشتغال السياسي للدولة. ومنه، فلم يعد هناك ترادف آلي بين مطالب “الشارع” وبين الأجندة السياسية للانتقال الديمقراطي لتلك القوى.

إذن، نحن أمام واقع مجتمعي لا يكترث بالسياسة بالمعنى وبالتصور الذي أطرته -تاريخيا- وثائق الإصلاح السياسي بالمغرب. بمعنى أوضح قد نكون أمام تعارض آخر في قراءة الواقع السياسي من منظور مجتمعي، مؤداه أن ما يؤطر النقاش العمومي حول السياسة بمعناها المؤسساتي لا يمس جوهر الأزمة التي تعانيها السياسة داخل مجتمع تبدي فيه فئة الشباب (أكثر من %60 من الفئة العمرية التي يحق لها التسجيل في اللوائح الانتخابية) – سوسيولوجيا- ممانعة نفسية وثقافية تلقائية لما يستطيع أن يقترحه “أهل السياسة” من اجتهادات تستقيم وما استندت عليه فكرة الإصلاح والسلطة والانتقال الديمقراطي بعيد حالة الاستثناء وانطلاق المسلسل الديمقراطي في 1976-1977. من هنا يبدو أن واقع التحولات المجتمعية مشجع على بروز طبائع رادكالية في التعبير عن الموقف من السلطة ومن ممارسيها يميل إلى الاستنكار المزاجي وإلى اللجوء إلى تركيب شبكات اجتماعية افتراضية بديلة على الشبكات المعيارية قادرة على المباغتة وسرعة الانسياب في أوساط اجتماعية متباعدة في القيم وفي الجوار الاجتماعي؛ مما يصعب من نجاح محاولات احتواء السلطة لرجات المجتمع.

بالجملة، نحن أمام صراع للقوى المجتمعية قابل لأن يتغذ -سلبيا- وبسرعة من صراع المصالح بين فرقاء الحقل السياسي، فيَسهُلُ حينئذ تبخيس السياسة والسياسيين وإفقاد الثقة في جدوى المشاركة السياسية، فتشيع ثقافة سياسية معاكسة للوثيقة الدستورية ولمحتواها الضبطي للعلاقات الترابية المبنية على الديمقراطية التمثيلية أساسا لممارسة السلطة بمعناها المؤسساتي المعقلن لإرادة الأشخاص في الحظوة المصلحية وفي الشرعية السياسية.

المنطلق الثاني

هب بنا الآن، لبسط الحديث عن المنطلق الثاني، أي الرهانات الجارية حول الديمقراطية الانتخابية في ضوء التحضير لاستحقاقات 2021 وموقع حزب العدالة والتنمية في هذه الدينامية، وسأحاول فيه أن أختزل التحليل في خمس ملاحظات بارزة.

الملاحظة الأولى، لقد مثلت الانتخابات الجماعات الترابية لـ2015 وتشريعيات 2016 ممارسة سياسية أكدت إمكانية إعمال حق المشاركة المبنية على المواطنة المحلية في فرز تمثيلية للأمة مبينة على القرب الاجتماعي، بالرغم من أن صلاحيات المجالس المنتخبة على المستوى الترابي تبقى ذات أدوار مقيدة من ناحية ممارسة السلطة (مبدأ التدبير الحر).

وقد يسرت تلك المحطتين للمناضلين والفاعلين المحليين مسالك التنخيب والوجاهة الاجتماعية التي تسمح بالاضطلاع على أدوار الوساطة السياسية بين الساكنة ومجموعات المصالح وبين السلطات العمومية.

الملاحظة الثانية، لقد تبين من الممارسة اليومية للسلطة، أن هناك تجاذبات تعتري علاقة الدولة بحزب العدالة والتنمية، فتارة تظهر الدولة أما حاضنة للحزب باعتبار جزء لا يتجزأ من واقع حزبي مغربي لا فرق لديها فيه بين من يحمل مرجعية إسلامية من غيره ممن يحسب بطريقة أو بأخرى علمانيا أو تقدميا أو ليبراليا حداثيا، وتارة أخرى مضيقة عليه غير منصفة ومائلة لطرف محسوب على الثقافة التي تأسست عليها السياسة الحزبية المغربية في بداية ستينيات القرن العشرين، أي “أحزاب الحظوة الإدارية”.

الملاحظة الثالثة، هناك عودة قوية لمحاولة نزع التسييس عن العملية الانتخابية، أي إحياء الاختلاف التقليدي في المغرب بشأن تمثلات السلطة والحكم، لكن مع فارق أن في الفترة الراهنة يسجل وجود تقلب وتراجع في مواقف مبدئية تأسست عليها الفلسفة السياسية لأحزاب بعينها، إذ إلى حدود 2009 لم يكن مصوغا عند تلك الأطراف القبول بوجود إمكانية الامتياز في الحظوة لحزب أو لأحزاب على حساب أحزاب أخرى من دون أن تكون هذه الحظوة مبنية على شرعية انتخابية مفرزة بشكل حر ونزيه.

الملاحظة الرابعة، لقد تأكد عبر نتائج الانتخابات التي أجريت بين 2011 و2016 أن وجود البيجيدي في الحقل السياسي يعد مكسبا سمح باستمرار الوجود الرمزي والاعتباري للحزب بمعناه العام و”باعتباره هيئة دستورية للوساطة السياسية” في جغرافية القرب الاجتماعي، في وقت تراجع فيه التأطير الجماهري للأحزاب الأخرى. إلا أنه وبالرغم من ذلك، فإن الاستئناس بممارسة السلطة لم يؤثر في مرجعية هذا الحزب وفي فلسفته السياسية، إذ التماس المعاين في النشأة بين السياسي والدعوي لم يتغير، بالرغم من أن ممارسة السلطة أكسبت الحزب مساحة من التجربة السياسية “الدنيوية” ومن الاحتكاك بواقع التدبير العمومي القائم على تراتبية “علمانية” وصراع براغماتي للمصالح وعلى تضاربها بين فاعلين ليسوا بالضرورة خصوما أزليين والتعايش مع وجودهم أمرا محتوما في ظل منافسة انتخابية مبينة على الهشاشة النافعة. كلها في اعتقادي عوامل كانت بإمكانها أن تحفز الحزب على القيام بمراجعة مفيدة، خاصة على مستوى الأسئلة المجتمعية التي تستدعي توجها محليا ومغربيا خالصا في الاجتهاد، وهو أمر مفيد، في رأيي، على مستوى تبديد حاجز الثقة مع فرقاء بإمكانهم أن يكونوا حلفاء موضوعيين ضد تيار التوجس والاستئصال الذي ظهر مع أحداث 16 ماي 2003 وما يزال مستمرا  كثقافة سياسية تنتعش في سياق صراع على المصالح غير مؤطر بتوافق واضح بين فرقاء المشهد السياسي الراهن.

الملاحظة الخامسة، بقراءة تقاطعية لمجمل المذكرات أو ما يروج من مقترحات للأحزاب الممثلة في البرلمان حول الإصلاحات السياسية والتنظيمية المتعلقة بانتخابات 2021، فإن أهم مشترك مضمر فيها أن المشاركة السياسية للعدالة والتنمية خلال العشرين سنة الأخيرة يجب أن يكون لها ثمن، ولا يمكن أن نتصور أن ذلك يحتمل فقط أن يتحمل فاتورة هذه المشاركة الطرف الآخر في الصراع أو المنافسة، بل أيضا على الحزب أن يتحمل جزءا من هذه الفاتورة، وهو ما يحتم عليه القبول بمبدإ التدرج في قلب المعادلة على مستوى ميزان القوة داخل المشهد الحزبي، خصوصا وأن هذا الميزان تتجاذبه مصالح، ليست بالضرورة شخصية، بل مصالح مؤسساتية مختلفة، وتلزمه باعتماد توازن يسلم بوجود تنافر في تمثلات السلطة والحكم وفي وظيفة الانتخابات والمنافسة الحزبية، وتنافر أيضا في الثقافة السياسية المؤسسة للديمقراطية.

هذا الوضع لا يسوغه دستور 2011، لكنه أمر واقع تحتمله الممارسة السياسية. وعليه، فعلينا التعامل معه ببراغماتية على أنه صراع وجود يتأسس على منطق سياسوي يؤثر لا محالة -سلبا- على منسوب الثقة في جدوى المشاركة الانتخابية، لكنه بالمقابل يعد حتمية سياسية لا يمكن تغييرها، لا على المستوى القريب، ولا على المستوى المتوسط. وبالتالي، علينا النظر إليها أنها إرادة جامحة في الوصول إلى مركز القرار، بناء على تصور يسلم -قبليا- بوجوب حدوث التداول على السلطة، ولو بالتراجع على مكسب النظام الانتخابي النسبي.

من هذا المنظور، في نظري، لن تحسم المنافسة الانتخابية المقبلة بنصوص إجرائية فحسب، بل أيضا بتوافقات سياسية على الحد الأدنى من التنازلات التي بإمكانها أن تحمي مشروع الانتقال الديمقراطي من مخاطر الانحباس، وأن تجنب مسار الإصلاح السياسي من تضارب القراءات في مآلات اختيارات الناخب واحترام إرادته في ممارسة السلطة.

هذا التحليل يقودنا إلى القول بأن الممارسة السياسية للأحزاب هي التي ستطور المسار الديمقراطي، وإذا لم يكن هناك تصور متوافق عليه على مستوى الخيار الانتخابي وجدواه السياسي في ممارسة السلطة، لا يمكن أن يتطور الوضع، ولن يستقر مسار الانتقال الديمقراطي نحو أفق ثابت ونهائي يواكب دينامية الصراعات المجتمعية التي تؤطرها الحاجات اليومية في جغرافية الهامش المحيط بمركز القرار السياسي.

خلاصات عامة

ماذا نستنتج من التحليل أعلاه؟ أعتقد أن التركيب النسقي بين المعطيات السالفة الذكر، يمكننا من خلاصة أربعة أمور أساسية:

أولا، نحن أمام واقع سياسي أصبح بالإمكان فيه الاستناد إلى المنافسة الانتخابية في خلق قيم اجتماعية تجعل من المشاركة المواطنة مدخلا حقيقيا للتداول على السلطة، وأساسا حاسما في شرعية اختيار النخب السياسية، وتجديد الانتداب، والصراع المؤسسي الذي لا ينتهي على السلطة.

لكن في نفس الآن، نحن أمام صعوبة جدية في تثبيت مبدأ التنافس وتعزيز إمكانية وقيم الشرعية الانتخابية، بسبب تنافر قيمة الممارسة السياسية للأحزاب، وتعقد مصالحها المعلنة والمبهمة. وهذا ما يحتمل علينا أن ننظر بشيء من التشاؤم حول مآل الفكرة المجردة للمساءلة في العملية الانتخابية والقيم المرتبطة بالمنافسة الهادفة لتزكية البعد الجماهري في الاشتغال السياسي للأحزاب.

ثانيا، نحن أمام واقع وسياق اجتماعي واقتصادي يفرض قراءة مختلفة تماما عن تلك المعتمدة في 2015-2016، حيث التحدي الوحيد الذي راهنت عليه آنذاك مجموعة من الفرقاء الأساسيين في المشهد الحزبي، هو قطع الطريق على البيجيدي لكي لا يفوز بولاية تشريعية ثانية. ففي اعتقادي، الأمر لم يعد ممكنا في السياق الحالي الذي قدمت بعض ملامحه أعلاه، لأن البيجيدي، بغض النظر عن الموقف الإيديولوجي من أرضيته السياسية المحافظة، ومن التماس الواضح في اشتغاله الجماهري بين ما هو دعوي وبين ما هو سياسي، أصبحت الحاجة إليه ضرورية لتخفيف مخاطر النهاية الكارثية للسياسة الحزبية في المغرب. فهو ما يزال يعتبر الحزب الأكثر تنظيما الذي يحافظ على تأطير دوري في جغرافية القرب الاجتماعي.

ثالثا، وجود احتمال انفراج سياسي يجعل من السنة المقبلة لحظة معاودة مسار الإصلاح السياسي الذي تأسست عليه بداية العهد الجديد. ففي اعتقادي إن واقعية خطاب ثورة الملك والشعب لهذا العام وربطه نسقيا بخطاب العرش لسنة 2007، يتجه نحو أفق استراتيجي لن يستغني فيه الملك على إرادته السياسية في الحسم بشأن مصداقية المسلسل الانتخابي. الأمر الذي يجعل البيجيدي أكثر اطمئنانا لورش التحضير للانتخابات المقبلة. والحاصل، إن الملك يهيئ لإقلاع جيل جديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تربط عضويا المسار الديمقراطي بالمسار التنموي، وينتظر من الأحزاب تفاعلا إيجابيا وسريعا مع هذا التصور؛ علما بأن أشغال اللجنة الملكية المكلفة بتحيين النموذج التنموي تشرف على الانتهاء، ومن المتوقع جدا أن تمثل مخرجاتها أرضية لتصور مجتمعي يرهن مستقبل التصورات الاستراتيجية الكبرى للمغرب إلى ما بعد 2030.

رابعا، إذن، لدى الفرقاء السياسيين في هذه اللحظة الفارقة خياران لعقلنة مخرجات الخريطة الانتخابية المقبلة:

الخيار الأول: تقني خطي يستغني على قاعدة “مراعاة الكفاية| القدرة التعبوية للناخب باعتباره المؤشر الأمثل لقياس الامتداد الجماهري للأحزاب والحفاظ عليه شرطا حاسما في احتساب الأصوات”. ويلجأ هذا الخيار إلى إعمال إجراء يحمي التمثيل السياسي للمواطن المبني على مبدإ “حماية حق الأقليات العددية”، بإمكانه أن يستبق اختلال التوازن الواضح على مستوى القدرة التنافسية للأحزاب والذي بإمكانه أن يؤدي إلى فشل مجموعة من الأحزاب المتوسطة والصغيرة في تعبئة أحجام الأصوات الكفيلة بتمكينها من البقاء في المنافسة على عدد المقاعد في لحظة الفرز. وذلك بالتركيز على مرجع احتساب الأصوات أثناء الفرز (أي القاسم الانتخابي) باعتماد عدد المسجلين قاعدة لقلب المعادلة التي يبنى عليها الترادف في الأحجام بين نسبة الأصوات وبين نسبة المقاعد. وهو ما يؤدي -آليا- إلى تقليص إمكانية استفادة البيجيدي من مقاعد أكبر البقية في الدوائر ذات الكثافة السكانية العالية والمتوسطة والمعروفة -انتخابيا- بانخفاض نسبة المشاركة، وارتفاع نسبة تسييس الأصوات المعبر عنها.

الخيار الثاني: سياسي براغماتي يتأسس على تصور توافقي محكوم ببناء الثقة بين الأحزاب وقوى مجتمعية أخرى (بما فيها المدنية غير المنتمية لأحزاب مخصوصة)، واتاحتها الفرصة والقدرة على نسج تحالفات انتخابية قبلية عبر اللوائح المشتركة، تمكن الفائز منها من تفادي اللجوء الاضطراري إلى نسج تحالفات سياسوية غير متجانسة، تطاوع مبدأ “التكملة العددية لاستفاء شرط الأغلبية الحكومية”.

كما يبدو، فإن الخيارين مختلفان في المنهجية، متفقان في الغاية، أي عقلنة مخرجات استحقاقات 2021.

لكن هناك وجود لفارقين بينهما:

الأول، أن عدة أحزاب لا تريد أن تتفاوض ولا يهمها ذلك؛ لأن في اعتقادها الاستحقاق الأهم هزم البيجيدي في الانتخابات المقبلة أو على الأقل التحكم في قدرته على الفوز.

في رأيي، دفع البيجيدي إلى الإيمان بضرورة تحكمه “ذاتيا” في صبيب تنخيبه الانتخابي، فرصة لخلق توازن “مشروع” للخريطة الانتخابية تفرضه حساسية المرحلة؛ وهو أيضا فرصة للحزب لإجراء تقييم جدي لمسار إنتاجه لنخب سياسية مناضلة ذات قدرات قيادية ملاءمة لما تفرضه المسؤولية العمومية من تجرد على التراتبية المقدرة على تصور مغلق للتنظيم.

والأهم، أن في هذا التوافق، فرصة لمختلف الفرقاء السياسيين لتثمين مصداقية العملية الانتخابية التي ألح عليها الملك في مختلف استحقاقات ما بعد الربيع الديمقراطي.

بالمحصلة، المخرج الأكثر عقلانية أن تؤمن الأحزاب وجزء من الدولة أن لا ديمقراطية انتخابية بالمغرب بدون توافق على السياسة وليس على المقاعد.

والفارق الثاني، أن الخيار التقني ينحو طريقا يبدو قصيرا ويسيرا في الصياغة والحساب؛ لكنه شاق في الوقع السياسي على مصداقية المشروع الإصلاحي برمته.

أما الخيار السياسي، فيبدو على العكس صعبا في بدايته بسبب الاضطرار إلى التفاوض والتنازل والاعتراف بالحاجة إلى الآخر، لكنه الأيسر والأنجع في النهاية، لأنه الأفضل في النتائج من حيث شفافية العملية الانتخابية، ومن حيث تدبير فرص توازن القوى المعنية بالصراع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *