وجهة نظر

طفلة غزة: صوروا.. صوروا

دم…
دم…
دم

أشلاء وأشلاء…
دموع، وصراخ، وعويل.
بكاء، وقهر، وكبت، وذهول.

على رمال شاطىء غزة المفتوح على البحر، المفتوح على السماء، المفتوح على الآفاق والآماد، على تلك الرمال البيضاء، بياض البراءة والطهارة والنقاء، كانت طفلة غزة تتلوى، فوق الرمل، فوق الأرض، تصرخ بصوت مكلوم، تحول في لحظات إلى صوت أجش، ثم غار في الحنجرة، تماما كما الذل يغور بأعماقنا وأرواحنا وقلوبنا، كانت تصرخ وهي تبحث بين الجثث المفتتة، المبقورة، تتأمل الأجساد التي كانت قبل ثوان قليلة تلمس بأناملها نبض الأرض، نبض الحياة، نبض الشاطىء المزروع على حافة البحر المفعم بالحياة والزرقة، نبض البحر الممتد إلى أعماق تلتصق بالبراكين المسجرة تحت القاع، كانت تبحث عن بقايا حياة، عن بقايا نبض ما زال يعمر الصدور.

تاهت، حدقت في الجثث، كل شيء تغير، تبدل، ثم انطلقت كسهم، ورمت بنفسها فوق صدر والدها وهي تصرخ، تنادي:- ” أبوي، أبوي، أبوي “، هاجرت الطيور، وبدأت الأسماك رحلتها الطويلة قبل الأوان، والسماء وحدها من يسمع، مرغت نفسها بالتراب باحثة فيه عن نبضة أو خفقة نبضها قلب والدها أو خفقتها روحه، مرغت نفسها بصدره، وهي تصرخ، وتصرخ، وتصرخ، تبكي، وتبكي، وتبكي، تولول، وتولول، وتولول، أطبقت الآماد على ذاتها، وانطوت المسافات فوق نفسها، والطفلة تركض، تتأمل الجثث الممزقة المفتتة، وتعود إلى صدر أبيها الذي ضمها إليه قبل هنيهات، ليس على الأرض من يسمع، وليس على الأرض من يود أن يسمع، شهق البحر، وتراجع الموج، اندثرت رائحة الأرض، وانبثقت رائحة الدماء، رائحة الموت، رائحة صرخات طفلة موزعة بين الأشلاء المتفحمة، والدماء الممتزجة برمل الشاطىء.

عدسات العالم، وعيون العالم، راقبت الألم المزروع بكل خطوة خطتها الطفلة، راقبت كم العذاب والقهر الذي خرج من بين ثنايا صوتها الغارق بالذهول، بكى كثير، لكن الطفلة لا زالت هناك، تفترش دماء والدها وأهلها، تلملم أجزاءهم المتناثرة على امتداد الجرح والشاطىء، ما زالت تذرع الرمل وهي تصرخ:- ” أبوي، أبوي، أبوي، “، تقذف الألم من صدرها الصغير في وجه الحياة وكنه الوجود، تتلوى كأفعى مطحونة الرأس، ممزقة الجسد، تبكي، فتغرق البحر بدموعها، تبكي فيشعر البحر بصغره، ويختفي الموج في العمق، بحثا عن خلاص من دموع طفلة شربت ودفعة واحدة، مرارة الكون وألم الوجود.

هل رأيتموها؟ وهي تتوسد صدر والدها وجسده؟ تهزه، ثم تنظر نحو السماء ” أبوي، أبوي، أبوي “، وتعود للجسد من جديد، تهزه، تفتش فيه عن شهقة، عن أنة، عن غرغرة، وتعود تصرخ: ” أبوي، أبوي، أبوي “، وتركض بعزم مفاجىء، نحو الجثث الممزقة، فتشعر بالخوف، بالرعب، بالهلع، فتعود راكضة إلى صدر والدها الصامت، الهامد، صمت المقابر، وهمود الموت، تحدق في وجهه، تسأله أن يضمها إلى صدره، إلى الموئل القوي المتين، تضرب عينيها كل الأشياء، تنفض الرمل عن وجهها، وتصرخ:- ” أبوي، أبوي، أبوي “، والكون صامت، يحالف الموت المزروع بحدقتيها الغضتين، والأفق صامت، يحالف انهيارها، والآماد صامتة، تحالف قهرها.

هناك، على شاطىء غزة، كانت طفلة، يفتح الشجن والأسى أخاديدا في محيا براءتها، وكان القهر والخوف والهلع والرعب والليل والسواد والموت والحداد، كان كل هذا يخترق قلبها الصغير، وفؤادها الندي، كانت وحيدة، ترسل صرخاتها بكل ما تبقى فيها من حول وقوة، إلى المجهول، إلى الغامض، إلى ما تبقى فيها من طفولة سحقت تحت أشلاء أهلها، وصدر والدها، تحت ركام الموت ورائحته.

هناك وقفت لتشاهد، بقايا أناس عاشت في أحضانهم، بقايا تتساقط أجزاءها على رمال الشاطىء المأخوذ، بكت، وبكت، وبكت، بصوت لا يحتمل الم البكاء وعذابه، بصوت غاب رنينه، – وللأبد – بين أشلاء الجثث المتفحمة ودماء الوالد الذي أعجزه الموت عن احتواء ابنته بين ساعديه الذين طالما احتوياها وظللاها من رعب الموت والقصف والدمار، والد مد الموج لسانه ليسحب معه قليلا من دماء إلى جوفه المهزوم والمقهور.

وكنت أنا، المسلم العربي العاجز المهزوم، أشاهد المنظر من الرائي، أشاهده وأنا موزع بين مشاعر من غضب لا يشبه الغضب، وحنق لا يتوافق مع الحنق، وغليان لا يتماثل مع الغليان، كنت في حالة استثنائية، تشبه حالة البئر المهجورة ورائحتها، أشاهدها وهي تدور على محور العذاب والأسى والألم، أشاهدها وهي تتلظى على نار الذهول والانهيار، أشاهدها وهي تحاول أن تهز الكون بصرخاتها، فتعجز، أشاهدها وهي تلطم على صدرها الرقيق اليافع، وعلى وجهها الغض الطري، أشاهدها وهي تتنقل من جثث متفحمة متفسخة، ممزقة، إلى صدر والد أوقف الموت نبضاته وحنانه، وشل ساعديه، وأرخى سدفه على عينيه الحانيتن، كنت أرقبه وأنا أبكي، أبكي، وأجهش بالبكاء، بكاء مر، ممزوج بالعجز والقهر والذل والمهانة.

اندفعت نحو المغسلة، صببت الماء فوق رأسي، بحمى مجنونة، وحين رفعت رأسي، كانت المرآة تصفعني، صفعة حرقت كياني، كان من فيها ينظر إلي بازدراء، باحتقار، وبكثير من الغضب، حدقت في محياه، رايته ينتفخ، يتجمر، يغلي، كبركان يستعد للانفجار، لم يكن هو من عرفته سابقا، بل لا يمت لمن عرفت بأي صلة.

قال لي:-

ابك كعادتك، واغرق في البكاء، اغرق في لذة تعذيب ذاتك، أنت وكل العرب، أنت وكل المسلمين، اغرقوا في مهانتكم، فانتم محترفون في الهزيمة والانكسار، ومحترفون، في استعذاب الذل والخوف والموت.

قلت:-

وماذا تفعل أنت، أنت تبكي مثلي، لا فرق بيني وبينك.

قال:-

حررني من الالتصاق بذاتك، أنا ابكي، واستعد للانفجار، لأنني جزء منك، لأنني انتسب إليك، أنت عاري، وذلي، وهواني، أنت جبل من الجبن والركوع، بل أنت معجون بالجبن والهروب، أنا اظهر فقط من اجل أن ابصق عليك، انثر بصقاتي على صفاتك وكلماتك، واحزن، لان البصاق الذي نثرته عليك أسمى من أن يلامس جسدك وذاتك.

امة كبيرة، ممتدة فوق بقاع الأرض، في قلبها علماء، شعراء وأدباء، ساسة وعسكر، جيوش وفيالق، ملوك ورؤساء وأمراء، مخابرات وسجون وقلاع، حدود ودول وإمارات وممالك، طائرات ودبابات ومدافع، نفط وذهب وماس، رجال ورجال ورجال، كل هذا شاهد على مشاركتكم في الجريمة، في تفتتيت الجثث، كلكم مشارك في انهيار الدمع من عيني الطفلة، كلكم فارغ، كطبول الغابات في العصور البدائية، كلكم يعرف كيف يبرر الهزيمة والانكسار، وكلكم، كلكم، عاجز عن مواجهة ذاته.

علماؤكم المغاوير، يخرجون مكللين بالعمم البيضاء والسوداء، يرهقون الناس بالمواعظ والنصائح والخطب، جباتهم مكوية، لامعة، وسياراتهم طويلة فارهه، وبيوتهم فسيحة واسعة، وقلوبهم خاوية ضاوية، شعراءكم وأدباءكم يتنقلون بين الفنادق والردهات، يلقون القصائد العصماء عن الشهداء والأبطال والدماء، وحين يقترب ظل السجن، أو ظل العذاب، يمدحون الهزيمة ويكبرون الاندحار، جيوشكم وفيالقكم، عارية من عشق الأرض والإنسان، وقادتكم، ثيران في حظيرة الاستسلام.

الطفلة تعرف ذلك، تعرفه بوعي الطفولة المغتالة، قالته وهي موزعة بين الجثث والخوف والموت والرعب، كانت تصرخ بصوت اللاوعي المكون من هول المفاجأة، ” صوروا… صوروا “.

هي تعرف، تدرك، تجزم، بيقين الاعتقاد، وبيقين الإيمان، أنكم لا تتقنون فنا سوى فن التصوير، تتقنوه بحثا عن هروب واختفاء، صرخت بكم، بضمائركم، بإيمانكم، باعتقادكم، بانتمائكم، برجولتكم، ببطولتكم، بعروبتكم، بعماماتكم، بكلماتكم، بجيوشكم، بمعاقلكم، بقلاعكم، صرخت ” صوروا… صوروا “، من بين الجثث، والأشلاء، والدماء، واللوعة، من قلب الذهول، لأنها تعرف من انتم، وماذا تمثلون، من انتم، وماذا ستفعلون، صفعتكم بحقيقتكم، صفتكم بذلكم وعاركم وخزيكم، ورشقتكم، بهوانكم وشؤمكم، حفرت على جباهكم الساجدة للهزيمة والانهيار صورة أهلها ووالدها، وغرست بأعينكم الحولاء، شهقاتها المعذبة، وأناتها الملوعة، قالت لكم، وهي تعيش حالة الذهول الكوني كله ما قالت، فنبشت قبوركم التي تسكنون، وأقضت فرحة جيفكم، ونشرت رائحتكم على رمال غزة وبحرها.

جيشوا جيوشكم، واستنفروا احتياطكم النفطي والبشري، وألبوا إذاعاتكم ومجلاتكم، واحشدوا علماءكم وشعراءكم، أدباءكم ومثقفيكم، واستنفروا أحزابكم وحركاتكم، وجهزوا مدافعكم وطائراتكم، وحضوا قلاعكم وحصونكم على فتح أبوابها، واجمعوا تقنيتكم كلها، وابدأوا مطاردتكم لتلك الصرخة، طاردوها برا وبحرا وجوا، واياكم أن تتوانوا عن اغتيالها أو اعتقالها، إياكم أن تتهاونوا مع الحنجرة التي أطلقتها، والفم الذي أرسلها، لأنكم، إن تركتموها سائحة في الفضاء، عائمة في الأثير، ستتحولون إلى بشر، آدميين، إلى إنسان.

صوت المرأة عورة، حجة رائعة، والعورة تكشف عورات، جهزوا كاتم الصوت، امنحوه جائزة لتلك الطفلة، جائزة رجولة العرب والمسلمين، شعوبا وقادة، واكتموا صوتها، أحيلوه إلى صوت غير مسموع، خوفا على الأذان والقلوب من التأثر بهاجس الصوت والنخوة.

أو أعيدوا زمن المقصلة، زمن إسقاط الرؤوس على ارض الوطن، واتهموا الصرخة بالسحر والشعوذة، وضعوها، بدون تردد، تحت السكين العريض، واقصلوه، واحتفظوا براس الصوت، نقلوه على مفارق الطرق، وازرعوه في الساحات العامة، حتى لا تجرؤ الفتيات اللواتي ستتفتت أجساد أهاليهن تحت ركام الموت، من الصراخ أو البكاء أو العويل.

مارسوا ذكورتكم، أقول ذكورتكم، لا رجولتكم، فانتم لا تشبهون الرجال أو أشباه الرجال، ذكورتكم التي يحمل مثلها الفأر والثور والحمار، هي الذكورة ذاتها، شئتم أم أبيتم، مع فارق هائل، فكل ما سبق يدافع بذكورته عن عرضه وحماه، أما انتم فتشهرون عرضكم وحماكم للغرباء، دون خجل أو استحياء، بل وتفخرون بتقديم العرض والحمى للغرباء دونما ثمن.

والصرخة، تلك الصرخة، هي من تكشف عوراتكم، لاحقوها، طاردوها، بكل الوسائل والأساليب، جهزوا التهم، ولفقوا الدلائل، فانتم اشهر من إبليس في ذلك، وافتحوا أبواب معتقلاتكم، ولا تنسوا كاتم الصوت أبدا.

غزة كلها تصرخ، بحرها، جوها، برها، حاصروها، أديروا سلاسلكم، وأصفادكم، حبال مشانقكم، فلسطين كلها تحمل الصرخة، انشروا طائراتكم، وتقنيتكم، صواريخكم، وغواصاتكم، حاولوا استرجاع الصرخة، سحقها، ابادتها، قبل أن تنتشر، لتلامس حدود بلادكم وأقطاركم، امنعوها من الدخول، وانتشروا كوباء الطاعون في كل مكان، المهم أن يتم اغتيال الصرخة، قبل أن تغتالكم هي.

هناك على الشاطىء الأبيض، ما زالت فتاة صغيرة، تركض نحو الجثث، وتعود الى صدر والدها، تصرخ، وتصرخ، وتصرخ…

صوروا…

صوروا…

فقط…

صوروا…

* مأمون أحمد مصطفى / فلسطين- مخيم طول كرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *