وجهة نظر

من أخطاء التفسير عند محمد عابد الجابري (2)

ليس القصد بهذه السلسلة من المقالات – كما قد يتوهم – التطاول على مفكر من كبار مفكري العصر، ولا الانتقاص من قامة بحثية مشهود لها برسوخ القدم وطول الباع، في الفكر والفلسفة ودراسة التراث ونقد العقل العربي، وخصوصا بعدما غادر هذه الدنيا الفانية، وأفضى إلى ربه سبحانه وتعالى، ولكن القصد منها معالجة آفة من آفات الثقافة المعاصرة، والتصدي لمرض من أمراض النخبة، هو التوقف عند أفكار بعض المفكرين والباحثين والفلاسفة، بالتقليد والتقديس والاجترار، واعتبار بعض الجهود الفكرية والمشاريع التنظيرية نهاية التاريخ الفكري والعلمي، والوقوع في النزعة التعميمية، التي تنظر إلى العباقرة والنبغاء، على أنهم نبغاء في كل مجال عباقرة في كل ميدان، بناء على تبريزهم ونبوغهم في بعض المجالات والتخصصات.

إنني أحترم الدكتور محمد عابد الجابري، رحمه الله وغفر له، وأقدر جهده الفكري والبحثي، وأعرف سعة اطلاعه، وعمق اشتغاله بالتراث العربي الإسلامي، وتحديدا ما تعلق منه بالفلسفة وعلم الكلام، وبالمذاهب العقدية والفكرية والسياسية التي عرفها تاريخ الإسلام، وقد قرأت الكثير مما كتب وأفدت منه، لكنني مع ذلك، لست ممن يعتقدون العصمة في أحد مهما بلغ من العلم والفهم، ولست ممن يقدسون أفكار أحد من الناس، ولا ممن يعبدون أحدا من العلماء والمفكرين، ورحم الله إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، الذي كان يقول: “كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر” (يقصد النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام).

الجابري مفكر كبير، وفيلسوف عظيم، وباحث مقتدر، لكنه دخل مجالا ليس مجاله، وبحرا لا يدري أغواره وأمواجه، ولا يملك الكافي من شروطه ومؤهلاته، هو بحر التفسير، فأساء إليه – غفر الله له – غاية الإساءة، وبحكم تخصصي في هذا المجال، واطلاعي المتواضع على هذا الفن، أزعم لنفسي القدرة على قراءة وتقويم أقوال الجابري في التفسير، ونقدها – بتوفيق الله – نقدا علميا، غير مدع الصواب في كل ما أقول، فاسحا المجال لمن يسددني ويرشدني وينتقدني أنا أيضا، جاعلا نصب عيني في ذلك قولة الإمام المجدد أبي علي الشوكاني رحمه الله: “اعلم أن صواب رأيك، هو صواب لك لا لغيرك، فإنه لا حجة إلا لله”.

وبذلك، تتكامل الجهود وتتلاقح الأفكار، ويكمل اللاحق جهد السابق، في اتجاه مزيد من الرشد الفكري والسداد العلمي، بشرط واحد، هو استحضار أخلاق العلم وآداب النقد والنقاش، عملا بقول الله سبحانه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الآية: 53 من سورة الإسراء)، والله الموفق للصواب، وهو الهادي إلى سواء الصراط.

المقدمات النظرية والمنهجية لمشروع “فهم القرآن الحكيم” للجابري

ينطلق الدكتور محمد عابد الجابري في مشروعه “فهم القرآن الحكيم”، من مجموعة من المقدمات النظرية والمنهجية، المعبرة عن تصوره لمنهج التعامل مع النص القرآني الكريم وتفسيره، مثل قضية الحاجة إلى هذا العلم، والمنهج الموصل إلى فهم القرآن، والموقف من التراث التفسيري للأمة، وغيرها من القضايا والمقدمات، وفيما يلي ذكر لتلك القضايا والمقدمات، واحدة واحدة، عرضا وتحليلا ونقدا.

المقدمة الأولى: في الحاجة إلى تجديد علم التفسير

يرى الجابري أن الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم، هي حاجة متجددة ومطلوبة في كل مكان وزمان، ويقرر أن قضية المنهج في ذلك، تظل هي العقبة الكأداء والسؤال الأكبر، وفي ذلك يقول: (فهم القرآن مهمة مطروحة في كل وقت ومطلوبة في كل زمان، وقد يكفي التذكير بأن اقتناعنا بأن القرآن يخاطب أهل كل زمان ومكان يفرض علينا اكتساب فهم متجدد للقرآن بتجدد الأحوال في كل عصر، وإذن، فطرح السؤال بصيغة “كيف نفهم القرآن؟” لا ينطوي على أية مغامرة، لكن الإجابة عنه، على ضوء معطيات العصر الذي نعيش فيه، هي المغامرة الكبرى).

من الناحية المبدئية، هذا كلام واضح مسلم، لا خلاف فيه ولا غبار عليه، فإن فهم القرآن الكريم واجب في كل وقت، فرض على أهل كل زمان، ولا يمكن أن تنوب فيه أجيال الأمة بعضها عن بعض، بل على كل جيل منها أن يكون له فهمه الجديد المتجدد للقرآن الكريم، باعتباره خطاب الله تعالى لأهل كل زمان ومكان، إلى قيام الساعة.

غير أن السؤال الملح في هذا المقام – والشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال – هو حول مفهوم التجديد، عند الجابري وعند غيره على حد سواء؟ هل هو بمعنى استثمار القديم والبناء عليه، بعد تمحيصه وتنقيحه ومراجعته؟ أم هو تجاوز كل قديم مهما كان، والتطلع إلى كل جديد كيفما كان؟ هل هو بمعنى إحداث ما يسميه الجابري والحداثيون ب “القطيعة الإبستيمولوجية” مع التراث، الفكرة المنقولة عن الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 – 1962) ؟، وإن كانوا لا يتفقون على فهم واحد لها، فيقول العروي بالقطيعة الكاملة، ويقول أركون بالقطيعة التأويلية، ويقول الجابري بالقطيعة الجزئية، التي تعني – عنده – تحجيم دور التراث البياني (اللغوي والديني) والعرفاني (الصوفي) الإسلامي (الذي يمثله – في نظره – أبو حامد الغزالي)، مقابل تقوية دور التراث البرهاني (الفلسفي) الإسلامي (الذي يمثله – عنده – أبو الوليد بن رشد)، وذلك في إطار تدبيره لثلاثية (البيان، البرهان، والعرفان)، التي تمثل المنظومات المعرفية الأساسية المكونة للتراث الإسلامي، والمشكلة للعقل العربي عند الدكتور الجابري.

والذي يدعونا إلى طرح هذا السؤال المنهجي، وهذا الإشكال المركزي، المتعلق بتصور الجابري لتجديد فهم القرآن، هو أن التجديد عند جمهرة علماء الأمة، ليس – كما يحلو للبعض – تجاوزا لكل فهم سابق مهما كان نصيبه من الصواب، والإتيان بكل فهم “جديد”، مهما كان بعيدا عن الصواب مجافيا للحقيقة، وليس هو البدء في فهم القرآن من لاشيء والانطلاق من الصفر، ولكن تجديد فهم القرآن هو الاجتهاد الدائم المستمر في تصويب الأفهام الخاطئة والتأويلات البعيدة، للعودة بالفهم إلى أصله الذي هو الصواب، وقد أحسن أستاذنا العلامة الدكتور الشاهد البوشيخي التعبير عن ذلك بقوله: “يقصد بتجديد الفهم إرجاع المعنى الذي استفيد من النص، وهو غير صواب، إلى وجهه الصواب، حتى كأنه كما كان أول مرة جديدا لم يطرأ عليه تغيير، وهو بالنسبة إلى مفاهيم الدين رسالة الأنبياء المرسلين والعلماء المصلحين، يجددون ما بلي من أمر الدين، ويصلحون ما أفسد الناس من فهم لكلام رب العالمين”.

على أن من الأفكار الملفتة للنظر في كلام الجابري آنف الذكر، ما عبر عنه بقوله: “وقد يكفي التذكير بأن اقتناعنا بأن القرآن يخاطب أهل كل زمان ومكان يفرض علينا اكتساب فهم متجدد للقرآن بتجدد الأحوال في كل عصر”.

من حقنا أن نتساءل – مع القارئ الكريم – في هذا المقام: إذا كان الجابري يقتنع حقيقة بمخاطبة القرآن لأهل كل زمان ومكان، فلماذا سعى – غفر الله له – في طول كتابه وعرضه، إلى ربط أحكام القرآن الكريم، بأشخاص معينين، أو بفئات محددة من عصر النزول، وتأويلها على نحو يوحي للقارئ وكأن أولئك الأشخاص وحدهم، وتلك الفئات وحدها المعنية والمخاطبة بأحكام الشرع دون سواها، بدعوى نزولها بسببهم، وهو العارف بعلم أصول الفقه، المستوعب لقاعدة: “العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب”، التي عليها جمهور الأصوليين. ولذلك توسع – غفر الله له – في البحث عن أسباب النزول، وحشر كل غث منها وسمين، كأنه حاطب ليل، حتى وصل به الأمر إلى حد تخيلها وافتراضها في أحايين كثيرة، مع أن طريق إثباتها هو طريق الرواية لا غير، كما بالغ في ربط الأحكام الشرعية بها، تحت ذريعة ما يسميه: ب” قراءة القرآن بالسيرة والسيرة بالقرآن”، على محدودية ثقافته الحديثية، وقلة خبرته بجانب الصنعة الحديثية، ولنا عودة مفصلة إلى هذا الموضوع في مقامه المناسب بحول الله.

كما ومن حقنا أن نتساءل، عن علاقة منهج توظيف الجابري ل “أسباب النزول”، بفكرة “الأرخنة” أو “التاريخانية” التي أخذها الحداثيون العرب عن شيوخهم الغربيين، من الفلاسفة الهيرمينوطيقيين الألمان، أمثال هايدغر وغادامر، ومن التفكيكيين الفرنسيين، أمثال كوك وكرون وجون واسبنرو، وبالخصوص مؤسس التفكيكية جاك دريدا ، والتي سعوا من خلالها إلى قصر النص القرآني على بيئته الزمانية والمكانية والبشرية الأصلية، ورفض تعديته إلى سواها، وإلى التشكيك – بالتبع – في خلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان، وفي قدرته على استيعاب البيئات المتباينة والظروف الطارئة والنوزل المستجدة.

بل وصل الغلو في القول ب “الأرخنة” ببعض الحداثيين، أمثال نصر حامد أبو زيد، إلى درجة اعتبار القرآن الكريم “منتجا ثقافيا” يحمل بصمات البيئة الاجتماعية والثقافية التي ظهر فيها، وفي ذلك يقول: “إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما، وإذا كانت هذه الحقيقة بديهية ومتفقا عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي للنص سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثمّ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص “.

وهنا نتساءل: كيف لمن يعتقد أن القرآن الكريم “منتج ثقافي”، تشكل في الواقع والثقافة كأي نص، ولا يرى لهذا النص الرباني أية ميزة أو خصوصية، بل لا يؤمن أصلا بأنه منزل من عند الله، كيف يؤتمن على القرآن والتفسير، وكيف يؤخذ عنه فهم أو تأويل. إن هذه النظرة التي تجرد النص القرآني الكريم من أية قداسة أو خصوصية، حاسمة في فهم تعامل الحداثيين معه، واستخفافهم بمضامينه ومعانيه، وتطاولهم على أحكامه ومقاصده، كما سنبين لاحقا بحول الله.

وإنما استمد نصر حامد أبو زيد “تاريخية القرآن”، التي سعى من خلالها إلى هدم ربانية القرآن الكريم، وإلى تكريس اعتباره نصا عاديا كسائر النصوص، إنما استمدها من شيخه محمد أركون في “إسلامياته التطبيقية”، و”قراءاته المعاصرة للفكر الإسلامي”، إذ يرى هذا الأخير، أن فكرة “الأرخنة” موجودة في الفكر الإسلامي القديم، و أن أول من قال بها هم المعتزلة من خلال القول ب “خلق القرآن”، ويرى أن استعادة هذه الفكرة من شأنه أن يدفع الفكر الإسلامي نحو آفاق أوسع وأرحب، يقول: “عندما دافع مفكرو المعتزلة عن مفهوم خلق القرآن، كانوا قد أحسوا بالحاجة إلى دمج كلام الله في سياق التاريخ، إذا ما استعاد الفكر الإسلامي اليوم هذه الفكرة فإنه عندئذ سوف يمتلك الوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تنثال على الفكر المعاصر من كل حدب و صوب بمصداقية أكبر و ابتكارية أقوى وأعظم”.

لم يشرح لنا الدكتور أركون كيف لفكرة شاردة، شذ فيها المعتزلة عن سائر مذاهب وطوائف الأمة، هي فكرة “خلق القرآن”، أن تفتح للفكر الإسلامي آفاق التطور والتجدد، وأن تمكنه من مواجهة كل الأسئلة والتحديات، بل لم يهتم أصلا بتأصيل الفكرة والاستدلال لها من مصادر الإسلام، وهي الفكرة المقطوعة الصلة بالقرآن والسنة، والمصادمة لعشرات الآيات والأحاديث الصريحة في الدلالة على نزول القرآن من عند الله، إلى درجة أن من أسماء القرآن “التنزيل”، إشارة إلى نزوله المنجم من عند الله، تيسيرا لحفظه وفهمه من قبل الأمة، ومواكبة للحاجيات المتطورة للأمة، في مجالات التزكية والتشريع والعمران. لعل مقصود أركون – ببساطة – هو أنسنة وأرخنة النص القرآني الكريم، لتجريده من أبرز سماته، التي هي ربانيته وقداسته، حتى يسهل لي أعناق نصوصه، والعبث بمضامينه، والذهاب بدلالاته ومعانيه كل مذهب، دون تدخل ولا رقابة من أحد، وهذا ما لن يحدث يوما، لأنه معارض لحفظ الله عز وجل لألفاظ ومعاني كتابه المبين، كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، ومصادم لحديث النبي الكريم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين” .

عموما، فإن ما ذكرناه من تبني الجابري – مع زملائه الحداثيين – لفكرة “القطيعة الإبستيمولوجية” مع التراث، ولفكرة “أرخنة القرآن الكريم”، وإن أثار عندنا من الأسئلة والإشكالات ما أثار، فإنه ليس كافيا – لحد الآن – لتبين مفهومه لتجديد فهم القرآن الكريم، ولذلك فنحن مطالبون بمزيد من التريث والتأني، وبعدم التسرع في إصدار أي حكم، في انتظار أن تتضح ملامح ذلك المفهوم عند الرجل، وليس أدل ولا أكثر تعبيرا عن ذلك، من تعامل الرجل مع القرآن الكريم، ومن طريقته في تأويل آيه، من خلال مشروعه “فهم القرآن الحكيم”.