وجهة نظر

“اكحيلة”.. الفتى الذي ختم البحر حياته بالحسنى

القدر الحتمــــــــــــــي
” الموت ” ذلك القدر الحتمي الذي تحركنا يده كالدمى في مسرح الحياة, فتخلخل كل الحسابات, وتعلمنا حكمته كيف نأبه لوجودنا اللاأزلي العابر بغتة لكل متاهات الحياة, وتختلف الأسباب لتعبث بكل الأوراق, فتسجل بحبره نهاية الحياة.

حياة صاخبة ونهاية فاجعة, تلك التي ختم بها البحر حياة الشاب ” محمد شكراني ” الذي دأب رفاق الحي على مناداته ب ” اكحيلة ” نسبة إلى لون بشرته السمراء في عمر لم يتجاوز الرابعة والثلاثين ربيعا, حينما تلاطمت جثته أمواج محيط أسفي الهادرة صبيحة يوم عيد الفطر, الموافق للسادس من يوليوز من سنة 2016.

بين مطرقة حب الحياة وسندان المخدرات

في ” اعزيب الدرعي ” الحي الشعبي الصاخب الذي لا يكاد يطأ قدمك أحد زقاقا تهإلا وينقر أذناك صدى غوغاء لقاءات طفولية وأحاديث نسائية ورجالية جهورية, وحوارات شبابية, ومشادات كلامية قد تنقلب عنفا على حين غرة ودون سابق إنذار, لتجد نفسك ضحية ركلة قوية إن لم تسعفك رجلاك لتنفلت هرولة من بين حشود تجيشت من كل جذب وصوب من أجل متابعة أطوار المبارزة التي لا جواب لها عن الشقيقتين : من ؟ و لماذا ؟ فيكفيكأن تعلم أن الحي مصنف ضمن النقاط السوداء أمنيا بالمدينة, لتعرف الجواب.

في هذا الحي ولد محمدوترعرعسابعا بينستةإخوة ذكور وإناث في أحضان أب قاوم الغزو بأرض المستعمر الفرنسي بحرقة الرجل المغربي الشهم, فاحتضنه موطنه الثاني وأمن له حقوقه واحتياجات أسرته المادية بالمغرب. وأم حنون ختم الموت مسار حياتها بألم اعتصر قلب محمد لسنوات, وجرح لم يندمل بمرور الأيام, ولم يشف أثره حنان الأب الزائد الذي صنع منه شابا غير سوي يعشق الحياة ولا يسمع سوى صوت الخمر والمخدرات.

عرفته شابا خجولا متفائلا حسن المظهر, نشطا مفعما بالحيوية والنشاط وحب الحياة, ينتزع البسمة من أعماق قلبه السموح فينثرها بكرم بين المقبل والمدبر من عشيرة الزقاق, غير آبه بعتو القريب ولا غل الرفيق, غير مكثرتبغنائم بيع الذمم.يشهد له رفقاؤه بالطيبة والسخاء وعزة النفس, فكان طيبا حد الذل, سخيا حد الإيثار, عزيز النفس حد الشهامة.

نلت منه حظي من الاحترام والتقدير والحب الأخوي الصادق, فكنت كلما سمعت منه كلمة (آختي …) علمت انه في حاجة الى جرعة ماء تروي ظمأه وتطفأ لهيب نار الخمر والمخدرات المشتعلة في جوفه. ألج المنزل فأسقيه قنينة ماء ثم يتوارى مبتسما مطأطأالرأس دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى ملامح الشفقة واللوم والعتاب… ثم يعود في عتمة الليل بهدير صوت غاضب يكسر الصمت, صوت لا زال يموج صداه في أذناي غضبا … يتلفظ بكلمات مخلة في مواجهة بعض رفاقه الذين يمازحونه بإخفاء قنينة الخمر تارة وباستفزازه تارة أخرى, قد يصل به الغضب إلىإحداث جروح في جسمه, وقد يلتجأ إلى الحجر حينما يبلغ به الغضب مداه ولا يجد بدا من الاستنصار لحقه المهضوم و كرامته المهانة. وحينما يستفرغ شحنة غضبه, يبتعد, وقد أخذ منه الخمر والتعب مأخذه, يترنح ويصطدم بجدران المنازل بحثا عن باب مسكنه … يخفت صياحه شيئا فشيئا … يهدأ .. وتهدأ النجوم … فتنام العيون. وقد يحل ضيف شغب على قسم الشرطة ليغير اختلاف البيئة مزاجه فيحرر في غده. فهو بشهادة أحد أصدقائه 🙁 يُظْلَمُ ولا يــَظْلَمُ, يُعْتَدَى عَلَيْهِ وَ لاَ يعْتَدِي على أحد, يُسْتَفَزَّولا يَسْتَفِز, يُعَنَّفُ ولا يُعَنِّفُ).

وحين تتلاشى أثار نشوة الخمر الممزوجة بالمعاناة الجسدية والنفسية, تراوده آثار خدوش وجروح سقطاته المؤلمة المتكررة, فتعود به إرادته المشلولة وعزيمته المعطلة للانتشاء من جديد في حضن قارورة الخمر وتحت سطوة المخدرات. وكان كلما حاول أحد أصدقائه تقديم النصح لإرشاده,واجهه بقوله: ( غادا نبقى نشرب حتى نموت … )

نسمة تغييـــــــــــــــــر

كان محمد كلما غادر المدينة إلىأخرى,انبلج في أفقه أمل وطموح جديد, فيقرر التغيير ثم يشتغل,وان لم يؤهله تعليمه الابتدائي البسيط لما يطمح له أي شاب في سنه. فيبتعد عن السكر والمخدرات,لكنه كلما عاد الى مدينته,بين أهله ورفاقه, يتلاشى الطموح ويقبر الأمل وتعود حليمة إلى عادتها القديمة.

وتتوالى الأيام فيصحو محمد على غير عادته … وكأن نسمة تغيير قد هبت عليه, ألقيت السلام فأضاف بصوت خافت بعد الرد مالم أتوقعه : ( بغيت نبدل هاد الحال أو ما عرفتشآش ندير.. ) لم أجبه لأنه لم يكن ينتظرالإجابة حينما طأطأ رأسه كالعادة وغادر…كنت كلما حاولت الانفراد به, تراءت لي ملامح اخرى للاستهتار واللامبالاة ورداءة المشاعر وردود الأفعال وخيبة الآمال … فأدبر وأوليالأمر لمدبره.

كنت أعلم أنه ضحية بيئة تنتعش فيها “تجارة المخدرات ” وتضعبعض أعين الرقابة الأمنية ناشطيها تحت مجهر الحسابات والمصالح الشخصية.في وقت أصبحت توصم ” بالتجارة المخزنية ” التي يدار تسويقها منه واليه, بأيادي الأغنياء منهم والبسطاء … وأعلم أنه ضحية فضول ونشوة وإدمان وقلة وعي وضعف تعليم وثقافة وفراغ وتربية وغياب وازع ديني ورقابة أهليةورفقاء سوء وكثير مما يحتمله حرف قد… فما عساي أقدمه لشاب مثله لإنقاذه من براثن ذلك الموت الصامت الذي انغمس فيه في سن مبكر, سوى النصح والإرشاد والدعاء له بالشفاء وبظهرالغيب لأسرته ومحيطه, وللمجتمع وهيآته, وللإعلام ومؤسساته, وللدولة ومرافقها وترسانتها القانونية, بالانخراط سويا في عملية انقاد شباب الأمة وعتادها, وقوارب نجاتها في يومها وفي غدها, من ذلك الوباء الذي أعجز الأطباء, تلك الآفة التي نخرتتركيبيتهوأفسدت كينونته, فاختلت أخلاقه واضمحلت قيمه, ودمرت صحته النفسية والجسدية, وحياته الدينية والعلمية والثقافية والاجتماعية..

وأتت الرياح بما لم يشته محمد

في يوم عيد الفطر الموافق للسادس من يوليوز من سنة 2016استيقظ محمد مبكراعلى غير عادته فبدا مظهره وهو في أبهى حلة كالعريس في ليلة زفافه, فرحا نشطا ينثر التحية والسلام ويبارك العيد لكل من

صادفه. اقتنى سيجارتين وقنينة مشروب غازي من بقال مجاو, فأخبره أنه متوجه صوب الكورنيش في موعد مع البحر, ولم يكن يعلم انه في موعد مع الموت, ذلك القدر الحتمي الذي لم يملك لدفعه حيلة ولا رد. قضى ساعات يتأمل منظر البحر الساحر, وينتعش بنسيمه الذي يملأ الأرجاء بعطره ويغمرالمشاعر بروعته, منفردا, ثم مستأنسا بشاب جمعته به الصدفة والبحر… وحديث جرهما إلى مواضيع عدة من بينها الخمر والمخدرات. فكان في كل مرة يكرر عبارة: بيت نبدل هاد الحال آصاحبياو ما عرفتشآش ندير…

وكان ينط ويتحرك من اتجاه إلى آخر ثم يعود إلى مكانه وقد أخذه الحديث, ثميرن هاتفه فيرد وتتكرر الرنات فيغضب ويغلقه. طلب منه التقاط صورة شمسية بهاتفه, وفي لحظة غير متوقعة تمايل فانزلقت إحدى رجليه في منعرج رملي هش على حافة البحر, تهشم بفعل الأمواج فشكل حفرة مفتوحة عليه.حاول الشاب إنقاذه, لكن سرعة انسحاب محمد نحو الأسفل منعه, فارتطم رأسه بجدار الجرف الصلب, مما أفقده الوعيوسقط المسكين بين الأمواج الهادرة لتسحبه في اتجاه البحر, غير مبالية بسؤال القدر… ثم تجيبه بعد ساعات :(إلى حيث تهدأ النفوس وتركن…إلى نشوة الخلاص من الآلام والمآسي,الى التي صدق فيها قول القائل :
الموت كأس كل الناس شاربه والقبر باب كل الناس داخله).

وسجل القدر” نهايــة الحيــاة”

مات محمد وذكراه لم تفارق خيال ذلك الشاب الذي احتفظ بهاتفه, فوافق مبدئيا على إرجاعهإلى عائلته بعد اتصالهم به, لكنه تراجع وقرر الاحتفاظ به للذكرى,خوفا من توريطه في جريمة قتل نفاها بقوة, وأكد أنه سقط تلقائيا نتيجة فرط حركته وتأثير المخدرات, ثم رفع رأسه إلى السماء فاشهد الله وطلب أن يلقى نفس المصيرعقابا منهإن كان متورطا في قتله… ليتأكدمن خلال شهادته أنه لم ينتحر ولم يقتل وإنما رماه القدر” بكورنيش الموت ” كما دأب سكان المدينة على تسميته,ليختم البحر حياته بالحسنى.

 

مات محمد فتألمنا وتألم الصديق والرفيق,وانهمرت دموع الوالد والأهل والأقارب, ثم وري جثمانه الثرى بمقبرة ” بوديس” باعزيب الدرعي يوم السابع من يوليوز سنة2016.

لقد مات غريقا والغريق شهيد. مات ميتة الشدة وكثير من الألم. فأجزه اللهم بحسن نواياه, وتفضل عليه بالشهادةوبطيب مثواه, واجعلها مغفرة لذنوبه وزيادة في أجره وبلغه بها مرتبة الشهداء. وان يكن مرتكبا لبعض المحرمات فرحمتك واسعة وفضلك أوسع. فارحمه ونور قبره ووسع مدخله, وانس وحشته وهون غربته, واجعل الجنة مستقره ومأواه.وألهم كل الذين يحدونحدوه الرشد والثبات, وأنر بصائرهموقو عزائمهم وباعد بينهم وبين خبث إدمان آفة الخمروالمخدرات.

كلمـــــة شكــــر ورجــــاء

يعجز اللسان عن تقديم عبارات الشكر والامتنان, ويفيض القلب بأعمق مشاعر التقدير والاحترام لكل من أمدني بمعلوماتوصور لإنجاز هذا التقريرعن شخصية الشاب ” محمد شكراني ” ضحية كورنيش الموت, وأضم صوتي إلى كل الأصوات المتعالية الموجهة الى المسؤولين ومدبري الشأن المحلي بالمدينة من اجل التفكير في سبل توقيف المد المتنامي للموت والفواجععلى ضفة كورنيش محيط مدينةأسفي.

أسفي في :06/02/2017