وجهة نظر

كورونا والتأسيس لثقافة القطيع

اعلم أن فيروس كورونا لعام 2019 لم يكن ظهوره ظهورا عاديا كباقي الفيروسات، بل كان له تأثير على جميع المستويات. فبالإضافة إلى ما خلَّفه من خسائر على المستوى الاقتصادي، وأزمات على المستوى الاجتماعي والسياسي، فإن مسلس التأثير ما زال مستمرا، بل يمكن الحديث عن أنواع مختلفة لم تحضى بالاهتمام المطلوب.

لعل الاهتمام في وسائل الإعلام، بل حتى على المستوى الحكومي في أغلب الدول، وكذا المنظمات الدولية، انصب بشكل أكثر على الجانب الاقتصادي، حتى خُيل لنا أن الاقتصاد هو كل شيء، والفقر يتربص بنا من كل ناحية، ناهيك عن التخويف الذي امتلك النفوس نتيجة ربط الفيروس بالموت المحقق، وكذا بالأعراض القاتلة يقينا. والتي تعمل على تثبيت نظرية انتشار الفقر والمجاعة في المستقبل، ما جعل البعض ينسى أن الأرزاق بيد الله تأتينا دون حساب بعدما ظنوا أنها من فعلهم وتدبيرهم.

ولهذا، عملت المنظمات الدولية والحكومات المحلية على فرض إجراءات خاصة، بداعي التصدي لفيروس كورونا ومحاصرته، فكان منها المقبول والمرفوض، بل منها ما خلق جدلا واسعا في الساحة السياسية، غير أن قوة القانون والظروف التي يمر منها العالم ساعدت على الالتزام بها من طرف الأغلبية دون إثارة النقاش حولها بالشكل المطلوب، حتى كان الواحد منا يشك في ذكاء الشعوب والمسؤولين، ما جعل إعادة التفكير في أوضاعنا والإجراءات المتخذة فرض عين، بعدما كانت فرض كفاية.

وعليه، فإن إعادة النظر في الإجراءات المصاحبة لانتشار فيروس كورونا ومحاولة التوفيق بينها وبين ما يقال على خطورة الفيروس، وكذا خصائصه، تجعلنا نتساءل عن مدى مصداقيتها وسلامتها، ذلك أن المنطق يقتضي أمورا ويستبعد أخرى، حتى لا نسقط في تناقضات لا مخرج منها، كما أنه لا يعقل قبول كل شيء والتسليم به دون تمحيصه، في زمن صار الجميع ينبذ التقليد ويطالب بحرية التفكير والتعبير وكسر جميع الأغلال، بما فيها المسلمات الدينية التي لا تقبل التشكيك.

وبهذا يكون المنطق السليم هو طرح التساؤلات وخلق نقاشات عمومية تهدف إلى تحسين وتجويد خطة التعامل مع فيروس كورونا الذي شغل الرأي العام. لكن للأسف، واقعنا يخبر بعكس هذا تماما، حيث أن الخطاب السائد – منذ إطلاق منظمة الصحة العالمية على هذا الوباء اسم “جائحة كورونا” – يكرس فكرة ضرورة الالتزام والامتثال للسلطات دون مناقشة، حتى أمسى الواحد منا عند تسجيل بعض الملاحظات أو انتقاده للإجراءات المعمول بها محط تساؤل واتهام بالاستهتار واللامبالاة، بل يصل الأمر بعض الأحيان إلى المطالبة بسلك المسطرة القضائية ضد كل مخالف، بدعوى إثارة الفتن والتشكيك في المؤسسات والهيئات العلمية، دون النظر فيما قيل أو الإجراء المنتقد والبين اعوجاجه.

إن الأمثلة على اعوجاج بعض الاجراءات المراد بها مواجهة فيروس كورونا كثيرة جدا، غالبا ما استوقفت عقولنا من اللحظة الأولى، حتى إن كَثُر مؤيدوها دون سبب والتشديد عليها من طرف السلطات؛ حيث نجد مسألة تقليص زمن ممارسة الأنشطة التجارية والخدماتية وتوحيد توقيت إغلاق المحلات خير مثال على ذلك، لأن انتقال الفيروس غير مرتبط بالزمن أو توقيت العمل، كما أن فرض ذلك التوقيت وتحديده بذلك الشكل، يساعد على خلق الازدحام والفوضى، لاسيما في المحلات التجارية التي ألف الناس الاقتناء منها متى شاؤوا. هذا دون الحديث ومناقشة أمر التشديد على بعض الأنشطة دون أخرى، رغم احتمال الإصابة بالفيروس متساوية، بل أكثر احتمالا في الحالات التي عرفت التساهل، وفق الشروط التي تقررها الهيئات العلمية والتي كانت سبب فرض ذاك التشديد، والأمثلة على ذلك كثيرة.

يكفي الإشارة إلى التشديد الذي طال المساجد رغم قصر المدة التي يجتمع فيها المصلون دون الاحتكاك المبالغ، ذلك أن أداء الصلاة لا يقتضي الكلام ومبادلة أطراف الحديث بين المصلين، ما يعني ضعف احتمال نشر الفيروس بالرذاذ، عكس المقاهي والأماكن الترفيهية التي يحتمل فيها انتشار الفيروس عبر الرذاذ خلال تجاذب أطراف الحديث وكذا لطول المدة التي يقضيها المرء مع أصدقائه فيها وإمكانية استعمال نفس الأشياء دون تعقيمها، وفق التوصيات، لاستحالة ذلك، وعدم قدرة الجهات الرسمية ضبط كل الخدمات، بخلاف أماكن العبادة التي يسهل ضبطها لمحدودية زمن فتحها، فضلا عن النظافة التي يقتضيها أداء العبادات في المساجد والموصى بها قبل زمن كورونا.

أما الترخيص لعقد تجمعات عامة من طرف منظمات رسمية وغير رسمية، فإنها لا تعرف التشديد ولا التعقيد، بل الأمر الغريب هو انعقادها بحضور من ساهم في سن القوانين الزجرية المرتبطة بزمن كورونا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، دون مراعاة تلك الإجراءات التي يوصون بها ليلا ونهارا، مع التوثيق لمخالفتهم بالصور ومقاطع الفيديو، وبثها عبر القنوات والمواقع الإخبارية. لكن رغم كل هذا، لا يحق لنا انتقاد تلك الإجراءات، ولا التشكيك في مصداقيتها، حتى إن ثبت عندنا استهتار وعدم اللامبالاة من قبل المتفاني في تنزيلها والمتفنن في اختراقها أمام الملأ.

وعلى سبيل الختم، فإن تلك التناقضات التي تم رصدها من خلال النظر في بعض الإجراءات، والإصرار على تطبيقها وعدم انتقادها بدعوى المحافظة على الحياة والصحة العامة وعدم تعريض الضعفاء لخطر الإصابة بالفيروس، بدأت في التأسيس لنمط جديد من السياسة، والتي تهدف إلى السيطرة على الإنسان المعاصر باستغلال “فيروس كورونا” البريء والمظلوم، مع ظهور نخبة مثقفة مؤيدة لكل إجراء دون السماح لنفسها، تحت ضغط الإعلام الموجه، إعادة النظر والتشكيك في نوايا السياسي المعروف بالمكر والخداع عبر التاريخ، لأن ملف فيروس كورونا تم تسييسه والسيطرة عليه من طرف صناع القرار، حتى جعلوا من البحث العلمي أداة التحكم لغلبة التناقضات التي عرفتها الإجراءات الموصى بها دوليا أو محليا، مع تسجيل غياب الرأي المخالف أو تغييبه، سواء في المؤسسات الرسمية أو على مستوى القنوات والمواقع الإخبارية، إلا النادر منه، بل سبق أن تم حذف مجموعة من مقاطع الفيديو، من على منصات المواقع التواصل الاجتماعي وكذا من بعض المواقع الالكترونية، والتي تضمنت آراء مخالفة لما هو سائد ومنتشر، بدعوى مخالفتها للشروط المعمول بها، غير أنهم لا يجدون حرجا في السماح لبعض الآراء المخالفة لجميع الأعراف والتقاليد والشروط، لانها تنساق مع توجهاتهم بشكل أو بآخر.

وعليه، فإن الاستمرار على نفس النهج للتصدي لفيروس كورونا دون إتاحة الفرصة للجميع مناقشة الإجراءات المتعامل بها على المستوى العالمي، وليس المحلي فقط، هو بداية لمرحلة “التأسيس لثقافة القطيع”، بعدما كانوا يتحدثون عن مناعة القطيع في مواجهة فيروس كورونا.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *