وجهة نظر

الصحراء المغربية: نقاش قانوني بنفس وطني

إن الوفاء لروح المسيرة الخضراء، ولقسمها الخالد، يتطلب من جميع المغاربة، مواصلة التعبئة واليقظة، والعمل الجاد والمسؤول، لرفع التحديات الداخلية والخارجية.

مقتطف من خطاب المسيرة الخضراء

إن المتتبع لتطور قضية الصحراء المغربية في أبعادها السياسية والجيوستراتيجية يقف عند السادس من نونبر 1975م كمنعطف تاريخي ومفصلي في تعاطي المغرب مع ملف استكمال وحدته الترابية وفق مقاربة قوامها الواقعية السياسية، وكذا استمرار ثنائية “العرش والشعب” في مواجهة الأطروحات الانفصالية والاستعمارية التي استهدفت المملكة المغربية.

وإذا كانت الدبلوماسية المغربية قد طغت عليها، فيما مضى،الارتجالية وسوء تدبير الأدوات والوسائل، بالمفهوم الاستراتيجي، فإن الملك محمد السادس، ومن خلال مجموعة من الخطب التي تم تكريسها لذكرى المسيرة الخضراء والتي يمكن اعتبارها بمثابة “محددات الاستراتيجية العظمى للمملكة”، قام بإحداث طفرة في التعامل المغربي مع هذا الملف وفق تعاطي دبلوماسي قوامه الفعاليةوالنجاعة والاستباقية وتبني نزعة هجومية بمكونات وأهداف دقيقة وفق مرتكزات الإيمان الراسخ لدى الشعب المغربي بحقوقه الوطنية ووحدته الترابية المدعومة بالأدماغ التاريخية والقرائن القانونية لحسم النزاع المفتعل حول مغربية صحرائه.

من هذا المنطلق، فإن التحدي الأكبر، كما أعلن عن ذلك الملك محمد السادس، يبقى بالأساس استمرار حالة التعبئة الشاملة لكل مكونات الشعب المغربي وأجهزة الدولة الرسمية من أجل خلق قاعدة مادية واعية بحيثيات القضية الأم قصد إغناء الإجماع الوطني والشعبي المُطالَب بإلمام واقعي بالحيثيات القانونية والتاريخية، مما سيجعلنا أمام نخبة قادرة على تحمل المسؤولية التاريخية في الدفاع عن الوحدة الترابية بنفسٍ عقلاني وواقعي ويُمَكِّن من خلق الإجماع الوطني الواعي حول قضية الصحراء المغربية.

و لعل المعطيات التي استطعنا الاحاطة بها على مدى استقرائنا لقرابة خمسة وأربعين سنة من هذا النزاع المفتعل تدفع نحو التأكيد على غياب الشجاعة الكافية لدى بعض الأقلام في تناول قضية الصحراء من كل جوانبها مع الوقوف على مجموعة من الأخطاء التاريخية التي سقطت فيها بعض المقاربات البحثية والدبلوماسية والتي أثرت بشكل كبير على تطور تعاطي المجتمع الدولي مع قضينا الأولى.

وتبقى منطلقات البحث رهينة بفهم حقيقة الأطروحة الانفصالية كما هي، مع ضرورة تبني مقاربة شجاعة في طرحها، مما سيمهد الطريق لهدم هذه الأطروحة والبناء عليها وفق تصنيفات قانونية تمكن من تأسيس معرفة صلبة ومتينة بجوهر الصراع وقادرة على الوقوف سدا منيعا امام كل محاولات الاختراق التي يقوم بها أعداء وحدتنا الترابية .

إن وضع الإطار العام لمختلف النقاط الجوهرية التي يمكن إثارتها حول قضية الصحراء، سيمكننا من بلورة استراتيجية ناجعة لمواجهة الهجمات المتكررة الهادفة إلى زرع بذور الفتنة والانفصال بالداخل واللعب على ورقة حقوق الانسان بالخارج في ظل فشل الأسطوانة المرتبطة بمبدأ تقرير المصير.

مراكز ثقل المواجهة القانونية:

في هذا السياق، فإن عملية السرد التاريخي لقضية الوحدة الترابية، وإن كانت تمثل حمولة تاريخية ورمزية قوية، إلا أنقيمتهاالقانونية قد لا تكون بنفس الأهمية في نظر الأعراف الدولية والاجتهادات الفقهية. وتبقى منهجية البحث، وفق منظورنا، تنبني على مرتكزين قانونيين أساسيين: أحدهما تتشدق به الأطروحة الانفصالية والذي جعل من مبدأ تقرير المصير حجر الزاوية في المطالبة بانفصال جزء كبير من الصحراء، مستندين في ذلك على توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 1514 بتاريخ 14 دجنبر 1960، والمرتكز القانوني الثاني هو القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية والذي، رغم جانبه الايجابي، فإنه طرح مسألة تقرير المصير كإمكانية مفتوحة لحل النزاع في الصحراء مما شكل تجاوزا “شكليّا” خطيرا في اختصاصات المحكمة.

مبدأ تقرير المصير: حصان طروادة للأطروحة الانفصالية:

يُعتبر حق الشعوب في تقرير مصيرها من أقدم الحقوق الإنسانية الذي نجح في فرض نفسه، بالأخص على القوى المستعمِرة، بعد الضغوط التي مارستها حركات التحرير الوطنية عبر العالم، ليتمكن هذا المبدأ من اكتساب شرعية قوية بعد تخصيص مواد قانونية أضيفت إلى رصيد الحقوق التي ضمنها القانون الدولي للإنسان أفراداً وجماعات وشعوباً.

غير أن التنصّيص في مواثيق الأمم المتحدة على حق الشعوب في تقرير مصيرها يأتي في سياق جهودالمنظمة الدولية لتحرير الشعوب من الاستعمار ككيانات سياسية كان لها وجود سيادي وشخصية قانونية سابقتين وليس مرتكزا قانونيا لتفتيت وحدة الدولالوطنية والترابية والشعبية.

و لعل الأمانة التاريخية تفرض الاعتراف للمغرب بدوره الريادي في تكريس هذا المبدأ الذي كان الهدف منه إرجاع الحالة الترابية للبلدان المستعمَرة إلى حالتها الطبيعية والقطع مع السياسات الاستعمارية للقوى الامبريالية. ويبقى مؤتمر آنفا 14-24 يناير 1943 بالمغرب محطة أساسية على درب التأكيد على توصيات ميثاق الأطلسي التي تم سن بنوده في غشت سنة 1941 بين  رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ورئيس الوزراء تشرتشلوالتي تنص مادته الثالثة على أن البلدين: “يحترمان كُلّ الشعوب في اختيار نوع الحكومة التي تعيش تحت حكمها ويودَّان رؤية حقوق الملكية والحكم الذَّاتي عند أولئك الذين حُرموا منها”. والأمانة التاريخية تقتضي، أيضا، الاعتراف بكون المغرب، باعترافه بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776م، قد جسد عمليا مبدأ تقرير المصير بعد أن كان مجرد شعار عام تتناوله المؤتمرات وتطمح إليه المستعمَرات.

وبالعودة إلى قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، اعتبارا من بداية الستينات، نجد بأنهاتطالب إسبانيا بضرورة التعامل مباشرة مع المملكة المغربية من أجل تصفية الاستعمار في منطقة الصحراء. وفي نفس الإطار، لم يدخر المغرب جهدا في المطالبة باسترجاع هذه المنطقة من المستعمر الاسباني بعد حصوله على استقلال غير مكتمل عام 1956، بدءا من الخطاب التاريخي للملك الراحل محمد الخامس في عام 1958، ووصولا إلى عام 1960 حيث قام وفد مغربي برئاسة ولي العهد آنذاك الأمير مولاي الحسن بتقديم طلب رسمي إلى الأمم المتحدة بشأن ضرورة إنهاء الاستعمار في الأقاليم الجنوبية للمملكة.

في ظل هذا المناخ،الذي تأثر إلى حد كبير بتقاطبات الحرب الباردة، جاء القرار الأممي رقم 1514 الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 14 دجنبرسنة 1960 الذي حمل عنوان “تصريح حول منح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمَرة”، ونص في ديباجته على اهتمام المنظمة الأممية بقضية تحرير الشعوب من الاستعمار، وحقها في إقامة كيانات وطنية مستقلة، وعلى أنها تُسنِد حركات التحرير في الأراضي الخاضعة للاحتلال الأجنبي، وأنها مصممة على إنهاء الاستعمار بجميع مظاهره وأشكاله.

ومن خلال قراءة متأنية للتوصية 1514 نجد أن المادة السادسة تٌفرغ الأطروحة الانفصالية من كل مضمون عندما نصت على ما يلي:

–              كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة الترابية والوطنية لبلد ما تكون متنافية ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.

من هنا يبقى هذا القرار الذي تبني عليه جبهة البوليساريو أطروحتها، هو بالأساس القرار الذي يقيد مبدأ تقرير المصير بالصحراء ويجعل منه حجة على الأطروحة الانفصالية لا لصالحها. وهنا سجلنا باستغراب كبير تحاشي الدبلوماسية المغربية، فيما سبق، الخوض في هذا المبدأ رغم كونه سلاح قانوني يمكن التلويح به في المناسبات التفاوضية. هذه القراءة القانونية لهذا المبدأجعلت أكثر الدول التي ناورت سابقا حول أحقية المغرب في استكمال وحدته الترابية، ونقصد هنا إسبانيا، في حرج كبير خصوصا وأن هذه الأخيرة تعلم جيدا أن هذا المبدأ كلفها جزءا مهما واستراتيجيا من ترابها وهو منطقة جبل طارق ذو الأغلبية البريطانية.

إنالفقه الدولي يقطع بعدم قبول استغلال مبدأ تقرير المصير كمطية للنيل من الوحدة الترابية والوطنية للدول وهو ما تم تأكيده من خلال مجموعات من القرارات الأممية نذكر منها التوصية 2625 للجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 أكتوبر 1970 والتي،ورغم تأكيدها على كون مبدأ تقرير المصير شكل إضافة نوعية للقانون الدولي، إلا أنهاأشارت، في الفقرة الموالية،إلى أن هذا المبدأ يبقى مقيدا بضرورة احترام الوحدة السياسية والترابية للدول المستقلة وذات السيادة،لتطلق نفس المادة رصاصة الرحمة على الأطروحة الانفصالية عندما أكدت بأن مبدأ تقرير المصير لا يمكن أن يمارس على حساب مبدأ الوحدة الترابية للدول المستقلة. من هنا يتبين أن جميع التوصيات التي تم تبنيها في هذا الإطار لا نجد فيها ما يفسر أو يُؤوّل على أنه تشجيع أو ترخيص لأي عمل كيفما كان نوعه قد يفكك أو يهدد كليا أو جزئيا الوحدة الترابية والسياسية لكل دولة مستقلة وذات سيادة.

الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية: رأي سياسي بغطاء قانوني

يعتبر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية من الأسس القانونية والمسطرية التي ستحدد بشكل كبير طريقة تعامل المغرب مع مسألة استكمال وحدته الترابية، حيث لجأ المغرب إلى هذه الهيئة الدولية إيمانا منه بحقوقه التاريخية والقانونية على الصحراء ودعامة أساسية لتقوية موقفه التفاوضي مع إسبانيا التي كان فرانكو يعيش فيها أيامه الأخيرة.

وتجدر الاشارة إلى أن الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدوليةلا تتمتع بأية قيمة إلزامية في مواجهة الدولة أو الدول المعنية أساسا بموضوعها. ومعنى ذلك أن مخالفة هذه الآراء أو عدم الامتثال لها لا يترتب عنه أية مسؤولية دولية. وبالتالي فإن تكييف هذه الآراء الإفتائيةيظل في خانةالآراء الاستشارية كما يدل على ذلك الاصطلاح ذاته.

من هذا المنطلق، لجأ المغرب سنة 1974 إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لطلب رأي محكمة العدل الدولية فيما يخص نقطتين أساسيتين:

  • إبان الاحتلال الاسباني للصحراء هل كانت هذه الأخيرة تعتبر أرضا بلا سيد (resnullus) ؟
  • و في حالة النفي طرح المغرب السؤال المتعلق بطبيعةالروابط القانونية بين الصحراء والمملكة المغربيةمن جهة؟

في جوابها على الأسئلة التي طرحها المغرب كان رد محكمة العدل الدولية واضحا من خلال نفيها كون الصحراء كانت، إبان الاحتلال الاسباني، أرضا خلاء. وردا على السؤال الثاني الذي طرحه المغرب أفادت المحكمة أن المغرب كانت تربطه روابط قانونية مع سكان القبائل الصحراوية (تعيينالقادة،جبايةالضرائب،المقاومةالمسلحة، حملاتالسلاطين،معاهدات،اتفاقاتومراسلاتدبلوماسية…).

غير أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لم يقف عند حد التَقيُّد بالجواب على هذه الأسئلة، بل تجاوزه لإبداء الرأي في مدى ترقية هذه الروابط إلى مستوى تكريس سيادة المملكة المغربية علىالأقاليم الصحراوية وبالتالي فلم تجد أن هناك ما يمنع، في رأي المحكمة، من تطبيق القرار 1514 للجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي بمنح الشعوب حقها في تقرير المصير.

من هذا المنطلق يتبين أن محكمة العدل الدولية ارتكبت خطأ قانونيا من ناحية الشكل والطلب وذلك لقيامها بالتطرق إلى حيثيات لم تُطلب منها في عريضة الدعوى. كما يعتبر الحكم تجاوزا شكليا في اختصاصات هذه الهيئة التي لم تحصر منطوق حكمها على حيثيات العريضة المرفوعة إليها. وهنا تؤكد الفقرة الثانية من المادة 65 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية ما يلي: “الموضوعات التي يطلب من المحكمة الفتوى فيها تعرض عليها في طلب كتابي يتضمن بياناً دقيقاً للمسألة المستفتى فيها وترفق به كل المستندات التي قد تعين على تجليتها”. يتبين إذا، أن المحكمة وقعت في خطأ مسطري وأخلت بأحد أهم مقتضيات نظامها الأساسي، عندما حادت عن حيثيات الدعوى المرفوعة وأصدرت حكما بنفس سياسي أكثر منه قانوني.

من جانب آخر لم يتم اعتبار عقد البيعة بمثابة “عقد اجتماعي” بين الحاكم والمحكومين لكون التشريع الإسلامي لا يدخل ضمن القواعد القانونية التي تستند عليها محكمة العدل الدولية في بناء تصور قانوني للقضايا المعروضة عليها. هذا المعطى يتعارض مع ما ذهب إليه علماء الإسلام في اعتبار البيعة واجبا شرعيا يخرج امتناع صاحبها من جماعة المسلمين (الوطن) حسب بعض المفسرين. وهنا فشل المترافع المغربي أن يقنع المحكمة بالآثار القانونية المترتبة عن ميثاق البيعة وما يترتب عن هذا العقد الاجتماعي من ممارسات سيادية تحكم علاقات المواطنين بالحاكم، على اعتبار أن البيعة في الإسلام علامة على معاهدة المبايع للمبايع له أن يبذل له الطاعة فيما تقرر بينهما.

إجمالا يمكن القول أنه، ورغم التشعبات القانونية للملف، والذي تخللته لغة السلاح والحرب، تارة، واللغة الدبلوماسية والقانونية، تارة أخرى، فإننا حاولنا قدر المستطاع الإحاطة بالمفاتيح التاريخية والقانونية الأساسية لتطور ملف قضية الصحراء المغربية مؤكدين، كما جاء في التوجيه الملكي السامي،على ضرورة انخراط الجميع الفعال والإيجابي لتقوية الجبهة الداخلية في مواجهة أطروحات خصوم المملكة في سياقات إستراتيجية متغيرة تتميز بنشاط الدبلوماسية الملكية التي استطاعت، ليس فقط كسب اعتراف المجتمع الدولي بصوابية وواقعية الطرح المغربي، بل وتجسيد ذلك واقعا على الأرض من خلال تناسل افتتاح التمثيليات القنصلية في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية.

د. عبدالحق الصنايبي: متخصص في الدراسات الاستراتيجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *