منتدى العمق

الأدوار الحديثة لمؤسسة الأسرة في حياتنا المعاصرة

تعتبر “الأسرة” أول نظامٍ اجتماعيٍ عرفهُ الإنسانُ منذُ فجرِ التاريخ، فهو قائم على “أداء الوظائف التي تقوم بها النُّظم الاجتماعيَّة المعاصرة”، وبالتزامن مع التغيّر الاجتماعي الذي صاحبَ البشريَّة في مراحِلِها المختلفة، كانت “الأسرة” باختلاف أشكالها ووظائفها عبر مختلف الحقب التاريخي، من أكثرِ النُّظم الاجتماعية تأثيراً وتأثراً أمام ما حدث من تغيراتٍ اجتماعية، وتبقى – الأسرة- وحدها من تَكفلُ بقاءَ النوعِ الإنسانِي.

فالأسرة في الواقع، هي وعاء الحضارة والثقافة في المجتمع، لأنها التي تُحافظ على القِيمِ والعادات والاتجاهات والأفكار التي يكتسبُها الأبناء أثناء نُموّهِم وتنشئتِهم الاجتماعية، ومن خِلالِها يتعرف الطِّفلُ على أنماطٍ السلوكِ التي يتَّبعُها في حياتِه، حيث يتعلمُ ما لهُ من حقوق، ويؤدي ما عليهِ من واجبات.

وفي ذاتِ السياق، انعكسَ التَّطور الذي عَرِفتهُ المجتمعاتُ البشريّة على وظائفِ وأدوارِ مؤسّسة الأسرة، ما جعلَها تتمتّعُ بأدوارٍ تنمويٍّة أساسيٍّة على المستويات” الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية” كـافّـــة.

من هذا المنطلق، بادرت أغلبُ التشريعات المعاصرةِ بإجراءِ مراجعةِ شاملةِ لتَرسانَتِها القانونية ذات الصلة بــــميدان الأسرة، من أجلِ مواكبَة التطوراتِ التي عَرِفتها وظائف وأدوار مؤسسة الأسرة، رغبةً منها في بناءِ مجتمعٍ عصريٍ متطورٍ نِواتُه الأسرة، لــــيكونَ قادراً على مواجهةِ التحدّياتِ التي فرضتها التّطوُرات التكنولوجية والاقتصادية المتسارِعة المشهودَة في وقتنا المعاصر.

وبـحسبِ رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع الشهير “إميل دوركايم” بأن الأسرة “مؤسسة اجتماعية تكونت لأسباب اجتماعية، وتربط هؤلاء علاقات قوية متماسكة تعتمد على روابط الدم وأواصر القرابة، والمصاهرة، والتبني، والمصير المشترك”، فإن “مؤسسةَ الأسرةِ” أشبه ما تكون بمثابة “الوحدة الأساسية” التي تساهم في الحفاظ على ديمومة المجتمع ورقيه وازدهارِه عبرَ وظائِفها المختلفة “التربويّة والاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية “، فيما نرصد خلال هذا المقال أبرز هذه الوظائف والأدوار تربويا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا:

أولا: الدور التربوي للأسرة

إن “الأسرة” هي مصدر الرّوابط الأسريّة للأفراد، والتي تُشكّل وتكـــــــوِّن بدايات العواطِف والاتجاهات الاجتماعية لـحياة الطفل وتفاعله مع الآخرين، كما أنها تهيئ للطفلِ اكتساب مكانةٍ معينةٍ في البيئة والمجتمع، حيث تُعد المكانَة التي تُوفِّرُها الأسرة للطفل بالميلاد والتِّنشِئة محدِّداً مهماً للشكل الذي يستجيبُ به الآخرون تجاهه.

في هذا الصدد، يكاد يتفق جُلُّ علماء الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا الاجتماعية على أن الأسرة هي الخلية الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع، ولذلك عُدت هي من أهم المؤسسات التربوية التي تساهم بقوة في تشكيل وصقل الفرد، كما أنها مصدر السلوك الشخصي.

وعلى اعتبار أنّ الأسرةَ تُعدُّ الوسيطَ الأولَ لنقلِ ثقافةِ المجتمعِ السّائدة بمختلفِ عناصرها لأطفــــــــــالها، فإنها تشاركُ بأشكالٍ مباشرةٍ وغيرَ مباشرةٍ في إنماء مهنيّة الثقافاتِ الفرعيّة من خلالِ التفاعُلِ الاجتماعي كونها تعد كما أسلفنا” المرجعية الأولى” للطفل في معارفه، قيمه، ومعاييره، وتعتبر أيضاً المصدرَ الأولَ لإشباعِ الحاجاتِ الأساسيِّة له، لأنها الأساس الاجتماعي والنفسي أيضا.

وتتجلى مكانة “الوظيفة التربوية” للأسرة في عميلة اسقاطِ منظومتي الأخلاق والقِيم على أرضِ الواقِع، عبر تربيةِ النُّشأ على التعاون والفضيلة ومكارم الأخلاق، باعتبارِهِما حجرَ الأساسِ في عمليَة بناءِ مجتمعٍ سليمٍ متماسكٍ يستطيعُ مواجهةَ التّحدّياتِ التي تُواجِهُ المُجتمعَ بخطىً ثابِتة، كما قال أميرُ الشعراء أحمد شوقي “إنما الأمم الأخلاق وما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. فالتربية أصبحتِ وظيفةً أساسيةً تقع على عاتِقِ مؤسّسة الأسرةِ بـــــجانب المؤسّسات التربويّة ذاتِ العلاقة المنوط بها عملية بناءِ أجيالٍ واعدةٍ، تكونُ قادرةً على حملِ الأمانة وقيادة المجتمع لــبر الأمانِ مستقبلا، فإذا صلُحَ الأساسُ صلُحَ البناء.

ثانيا: الدور الاجتماعي للأسرة

يتعلقُ هذا الدور بمسألةٍ أساسيةٍ مرتبطةٍ بعميلةِ تعليمِ أفرادِ الأسرةِ اللغةَ التي يتفاعَلونَ بها مع المجتمع، وعمليةِ نقلِ الموروثات الثقافية والاجتماعية والدينية لأطفالها، فضلاً عن تعليمِهم كيفيّة تكوينِ العُلاقاتِ الاجتماعيّة ضمنَ ضوابط عدة، في إطار احترام قواعد الدين ومنظومتي الاخلاق والقيم، وذلك من خلال تعليمهم طرق التفاعل مع محيطهم الاجتماعي، بالإضافة إلى تطوير قدراتهم بما يتناسب مع أهداف المجتمع، فالأسرة تقوم بحسبِ رأي أحد علماء الاجتماع بدور “المدرب الاجتماعي” الذي يضمن للأفراد مكانة معينة داخل المجتمع .

ولعل أهمية “الدور الاجتماعي” للأسرة يبرزُ خلال السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل، على وجه الخصوص، ففي هذه السنوات يتم تطبيع الطفل اجتماعيًا وتهيئتهُ لــــمواكبة مختلف النظم الاجتماعية “التغذية، السلوك، الحياء، التربية الحسنة، الاستقلالية وعملية اتخاذ القرار”. كما يتضمن هذا الدور عميلة توجيه الطفل من أجل تعريفه بذاتِه وتنميةِ مفهومِه لِنفسِه، وبناءِ ضميره وتعليمه المعايير الاجتماعية ليعرِف حقوقِه وواجِباتِه التي تُساعدُه على التّكيّفِ في وسطه الاجتماعي.

ثالثا: الدور الاقتصادي للأسرة

لا يقل هذا الدور أهميةً عن الأدوار التي تقوم بها مؤسسة الأسرة، بحيث تقوم الأسرة بتوفير الاحتياجات المادية والموارد الأساسية لضمان حياة كريمة ومستقبل مشرق لأبنائها.

ويتجلّى هذا الدور، في أن الأسرة إذا لم تجد المـوارد الاقتصادية الضرورية فإنها تصبح عاجزة عن أداءِ أدوارها بنفسها، وتُدب فيها عوامل الفساد والتفكك، وبما أن الأسرة في السابق تقوم بكل مظاهر النشاط الاقتصادي، وكانت تعتمد على نفسها، كما كانت عليـه في الماضي فهي تقوم باستهلاك ما تنتجه، وبالتالي لم تكن هنالك حاجة “للبنوك أو المقاولات أو المتـاجر”.

فقد كانت الأسرة تكفي ذاتها بذاتها، فالطعام يحضَّر في داخلها وكذلك اللباس وكل ما تحتاجُه الأسرة ينتج ويحضّر من ذاتها، فيما يقوم جميع الأفراد بالعمل في هذا الحقل، فرابطة القرابة كانت قوية، والعيش مشترك والتعاون في الإنتاج والعمل كان مقسم، وكل واحدٍ يقومُ بوظيفةٍ لـيكمل الآخر، والسيادة المطلقة للأب، فهو الآمر الناهي، ويعتبر المسؤول الذي يُوفر كل مستلزمات أسـرته مهمـا كـانت.

كما أن الاختلاف الفسيولوجي بين جسدي الرجل والمرأة، قد جعل من الأسرة وحدة متكاملة على درجة كبيرة من الكفاءة، فالرجل بقوته الجسدية التي تفوق قوة المرأة يستطيع أن يقوم بصورةٍ أفضلَ بالأعمال التي تتطلب بعض القّوة، وكذلك المرأة تقوم بالوظائف الاقتصادية التي تتناسب مع طبيعتها الفيسيولوجية، والتعاون الاقتصـادي بينهما يؤدي إلى تقوية العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة.

رابعا: الدور السياسي للأسرة

باعتبار أنَّ الأسرة هي اللبِنة الأولى في المجتمع، فإنها تتسِمُ بقيمِ الوحدة والتكامل والتفاضل، وبدون البناءِ الأسري ينفرط عقدُ المجتَمعِ وينهار، وإن كانت التربيةُ السياسيّةُ تهدف إلى تعزيز الاتجاهات والقيم والمواقف اللازمة للمشاركة السياسية، فان تحقيقَ الهدف يتطلب وسائِطَ ومؤسساتٍ وأجهزةٍ يتم عبرها تربيةُ وتنميةُ الاتجاهات والقيم والمواقف.

وتبرز مكانة الأسرة في تربية أفرادها سياسياً من جوانب عدةٍ، أبرزها من الناحية القانونية حيث جاء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10.دجنبر.1948عن الأمم المتحدة “بوجوب منح الأسرة أوسعَ حمايةٍ ومساعدةٍ ممكنةٍ باعتبارها الوحدة الاجتماعية الطبيعية في المجتمعِ بحكمِ تأسيسها وقيامها برعاية وتثقيف الأطفال القاصرين”.

وتفيد بعض الدراسات ذات الصلة، بأن الأسرة تعتبرُ المؤثرَ الأول في أطفالها عبر مساعدتهم واشاركهم في عملية اتخاذ القرارات المرتبطة بها منذ البداية، وكما تشير الدراسات أيضاً إلى تأثيرِ الوالدينِ النشطين سياسياً أو ذوي المكانة الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة على توجّهاتِ أبنائهم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً.

وتؤكد هذه الدّراسات على أن ثمّة ارتباطاً وثيقاً بين آراءِ الشباب السياسيّةِ وما مرّوا به من خبرات في فترات طفولتهم، وان الخبرة المبكّرة بالمشاركة تجعل الفرد يشعر بالكفاءة السياسيّة وتمدُّه ببعض المهارات الضرورية للتفاعُلِ السياسيّ وغرسِ الاتّجاهات العامة.

ولكي تقوم الأسرة بهذا الدور على النحو السليم، ينبغي أن يحرِصَ الوالدين على إتباعِ مجموعةٍ من الخطوات عندما يُقدم الطفلُ على إتيانِ بعض الأفعال الايجابية داخل المنزل مثل “تنظيف وترتيب غرفة نومه أو مساعدة والدته في اعداد وجبه الطعام”، من قبيل الثناء المستمر عند إتيان السلوك الحسن من لدن أبنائهم وكَيلِ المديحِ والابتسامة ومنحهم المكافآت المادية.

علاوةً على ذلك، يجب أن تسود أجواء الحب والطمأنينة والاحترام المتبادل بين الوالدين داخل المنزل وفي العلاقة مع أبنائهم، وممارسة بعض الألعاب معاً، كما ويفترضُ عدمِ الإفراطِ في إصدارِ الأوامر، وإتاحة الفرصةِ للطفلِ لكي يكونَ حراً مستقلاً في اختيارِ آرائِه والتعبير عنها دون إكراه، وإحساسِ الطِفلِ أنَّه صديقٌ وصاحب، والتقليل من الأوامر التي لا جدوى منها داخل المنزل.

كل هذه العوامل تساعد الطفلَ على طرد الخوف والقلق والخجل، وتنمي ثقته في نفسه، وتخلق الشخصية المستقلة داخله، وتعزز روح مشاركته الاجتماعية، وتحميه من الآفات النفسية المدمرة كـــــــــــــــــــــــ “الانطواء والانعزال” ومصادر الافكار السلبية تجاه العائلة والمجتمع والحياة بصفة عامة.

إلى جانب ذلك، ثمة جوانب غاية في الأهمية ينبَغي على الوالدين أن يحرصا على تنظيمها والالتزام بها أمام أطفالهما، كـــــــــــــــــــ ” تناول الطعام وفق مواعيد محددة، ووضع قوانين داخلية تتعلق بالنظافة الشخصية، ومواعيد النوم والدراسة ومشاهدة التلفزيون وممارسة الأنشطة الترفيهية والرياضية…إلخ”.

ختاما، أؤكد على ضرورة اعادة الاعتبار لمؤسسة الأسرة في مجتمعاتنا العربية باعتبارها الوحدة الأساسية الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والسياسية الاجتماعية والنفسية التي يتشكل منها المجتمع، فهي نواته التي تساهم في بناؤه وتطوره، بحيث بصلاحها ينهض المجتمع وترتقي وتزدهر أحواله، وبتراجعها يتراجع ويتقهقهر، فإذا صلح الأساس صلح البناء.

والله ولي التوفيق

*نهيلة علي بوالصبع: باحثة في العلوم القانونية كلية الحقوق-السويسي جامعة محمد الخامس بالرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *